الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب من قال إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع فضل الماء

                                                                                                                                                                                                        2226 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب من قال : إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى ) قال ابن بطال : لا خلاف بين العلماء أن صاحب الماء أحق بمائه حتى يروى ، قلت : وما نفاه من الخلاف هو على القول بأن الماء يملك ، وكأن الذين ذهبوا إلى أنه يملك - وهم الجمهور - هم الذين لا خلاف عندهم في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا يمنع ) بضم أوله على البناء للمجهول وبالرفع على أنه خبر والمراد به مع ذلك النهي . وذكر عياض أنه في رواية أبي ذر بالجزم بلفظ النهي . وكأن السر في إيراد البخاري الطريق الثاني كونها وردت بصريح النهي وهو " لا تمنعوا " والمراد بالفضل ما زاد على الحاجة .

                                                                                                                                                                                                        ولأحمد من طريق عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة : لا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه وهو محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الأرض المملوكة ، وكذلك في الموات إذا كان بقصد التملك ، والصحيح عند الشافعية ونص عليه في القديم وحرملة أن الحافر يملك ماءها ، وأما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق لا التملك فإن الحافر لا يملك ماءها بل يكون أحق به إلى أن يرتحل ، وفي الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته ، والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته ، هذا هو الصحيح عند الشافعية ، ورخص المالكية هذا الحكم بالموات ، وقالوا في البئر التي في الملك : لا يجب عليه بذل فضلها ، وأما الماء المحرز في الإناء فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 40 ] قوله : ( فضل الماء ) فيه جواز بيع الماء لأن المنهي عنه منع الفضل لا منع الأصل ، وفيه أن محل النهي ما إذا لم يجد المأمور بالبذل له ماء غيره ، والمراد تمكين أصحاب الماشية من الماء ولم يقل أحد إنه يجب على صاحب الماء مباشرة سقي ماشية غيره مع قدرة المالك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ليمنع به الكلأ ) بفتح الكاف واللام بعدها همزة مقصور هو النبات رطبه ويابسه ، والمعنى أن يكون حول البئر كلأ ليس عنده ماء غيره ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا تمكنوا من سقي بهائمهم من تلك البئر لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعي ، وإلى هذا التفسير ذهب الجمهور ، وعلى هذا يختص البذل بمن له ماشية ، ويلتحق به الرعاة إذا احتاجوا إلى الشرب لأنهم إذا منعوا من الشرب امتنعوا من الرعي هناك .

                                                                                                                                                                                                        ويحتمل أن يقال : يمكنهم حمل الماء لأنفسهم لقلة ما يحتاجون إليه منه بخلاف البهائم . والصحيح الأول ، ويلتحق بذلك الزرع عند مالك ، والصحيح عند الشافعية وبه قال الحنفية الاختصاص بالماشية ، وفرق الشافعي - فيما حكاه المزني عنه - بين المواشي والزرع بأن الماشية ذات أرواح يخشى من عطشها موتها بخلاف الزرع ، وبهذا أجاب النووي وغيره ، واستدل لمالك بحديث جابر عند مسلم نهى عن بيع فضل الماء لكنه مطلق فيحمل على المقيد في حديث أبي هريرة ، وعلى هذا لو لم يكن هناك كلأ يرعى فلا مانع من المنع لانتفاء العلة ، قال الخطابي : والنهي عند الجمهور للتنزيه فيحتاج إلى دليل يوجب صرفه عن ظاهره ، وظاهر الحديث أيضا وجوب بذله مجانا وبه قال الجمهور .

                                                                                                                                                                                                        وقيل : لصاحبه طلب القيمة من المحتاج إليه كما في إطعام المضطر ، وتعقب بأنه يلزم منه جواز المنع حالة امتناع المحتاج من بذل القيمة ، ورد بمنع الملازمة فيجوز أن يقال يجب عليه البذل وتترتب له القيمة في ذمة المبذول له حتى يكون له أخذ القيمة منه متى أمكن ذلك ، نعم في رواية لمسلم من طريق هلال بن أبي ميمونة عن أبي سلمة عن أبي هريرة لا يباع فضل الماء فلو وجب له العوض لجاز له البيع والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        واستدل ابن حبيب من المالكية على أن البئر إذا كانت بين مالكين فيها ماء فاستغنى أحدهما في نوبته كان للآخر أن يسقي منها لأنه ماء فضل عن حاجة صاحبه ، وعموم الحديث يشهد له وإن خالفه الجمهور ، واستدل به بعض المالكية للقول بسد الذرائع لأنه نهى عن منع الماء لئلا يتذرع به إلى منع الكلأ ، لكن ورد التصريح في بعض طرق حديث الباب بالنهي عن منع الكلأ صححه ابن حبان من رواية أبي سعيد مولى بني غفار عن أبي هريرة بلفظ لا تمنعوا فضل الماء ولا تمنعوا الكلأ فيهزل المال وتجوع العيال والمراد بالكلأ هنا النابت في الموات ، فإن الناس فيه سواء .

                                                                                                                                                                                                        وروى ابن ماجه من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا ثلاثة لا يمنعن : الماء والكلأ والنار وإسناده صحيح ، قال الخطابي : معناه الكلأ ينبت في موات الأرض ، والماء الذي يجري في المواضع التي لا تختص بأحد ، قيل والمراد بالنار الحجارة التي توري النار ، وقال غيره : المراد النار حقيقة والمعنى لا يمنع من يستصبح منها مصباحا أو يدني منها ما يشعله منها ، وقيل المراد ما إذا أضرم نارا في حطب مباح بالصحراء فليس له منع من ينتفع بها ، بخلاف ما إذا أضرم في حطب يملكه نارا فله المنع .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية