الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          1647 حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روي عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وغير واحد من الأئمة هذا عن يحيى بن سعيد ولا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري قال قال عبد الرحمن بن مهدي ينبغي أن نضع هذا الحديث في كل باب [ ص: 232 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 232 ] قوله : ( إنما الأعمال ) قال جماهير العلماء من أهل العربية والأصول وغيرهم : لفظة " إنما " موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفي ما سواه ، فتقدير هذا الحديث أن الأعمال تحسب بنية ولا تحسب إذا كانت بلا نية قاله النووي : والأعمال أعم من أن تكون أقوالا أو أفعالا ، فرضا أو نفلا ، قليلة أو كثيرة ، صادرة من المكلفين المؤمنين ( بالنية ) بالإفراد ، ووقع في رواية البخاري في أول صحيحه ( بالنيات ) بالجمع . قال الحافظ كذا أورد هنا ، وهو من مقابلة الجمع بالجمع أي كل عمل بنيته . وقال الحربي : كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال ، كمن قصد بعمله وجه الله ، أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده ، ووقع في معظم الروايات بإفراد النية ، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها ، بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر ، وهي متعددة فناسب جمعها ، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له انتهى .

                                                                                                          قال النووي : والنية القصد وهو عزيمة القلب ، وتعقبه الكرماني بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد . وقاله البيضاوي : النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرر حالا أو مآلا ، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه ، والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليصح تطبيقه على ما بعده ، وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل ، ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور ، فقيل : تعتبر وقيل : تكمل ، وقيل : تصح ، وقيل : تحصل ، وقيل : تستقر ، وقيل : الكون المطلق ، قال البلقيني : هو الأحسن . قال الطيبي : كلام الشارع محمول على بيان الشرع لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي انتهى .

                                                                                                          ( وإنما لامرئ ما نوى ) قال الحافظ في الفتح : قال القرطبي : فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال فجنح إلى أنها مؤكدة . وقال غيره : بل تفيد غير ما أفادته الأولى لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية بصاحبها فيترتب الحكم على ذلك ، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه . وقال ابن دقيق العيد : الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئا يحصل له يعني إذا عمله بشرائطه أو حال دون عمله ما يعذر شرعا بعدم عمله ، وكل ما لم ينوه لم يحصل له ، ومراده بقوله ما لم ينوه أي لا خصوصا ولا عموما أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية عامة تشمله ، فهذا مما اختلف فيه أنظار العلماء ، ويتخرج عليه من المسائل ما لا [ ص: 233 ] يحصى . وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها ; لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل ، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه بخلاف تحية المسجد والله أعلم .

                                                                                                          وقال النووي : أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي . كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهرا مثلا أو عصرا ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة ( فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله ) الهجرة الترك ، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره ، وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه ، وقد وقعت في الإسلام على وجهين : الأول : الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .

                                                                                                          الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين ، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا .

                                                                                                          فإن قيل : الأصل تغاير الشرط والجزاء وقد وقعا في هذا الحديث متحدين . فالجواب : أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق ، ومن أمثلته قوله تعالى : ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا وهو مئول على إرادة المعهود المستقر في النفس ، كقولهم : أنت أنت أي الصديق الخالص ، وقولهم : هم هم أي الذين لا يقدر قدرهم ، وقول الشاعر :

                                                                                                          أنا أبو النجم وشعري وشعري

                                                                                                          أو هو مئول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب . وقال ابن مالك : قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظا كقول الشاعر :


                                                                                                          خليلي خليلي دون ريب وربما ألان امرؤ قولا فظن خليلا



                                                                                                          وقد يفعل مثل هذا بجواب الشرط كقولك : من قصدني فقد قصدني أي فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده ، وقال غيره : إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير ( إلى دنيا ) بضم الدال وبكسر وهي فعلى من الدنو وهو القرب لدنوها إلى الزوال أو لقربها من الآخرة منا ، ولا تنون لأن ألفها مقصورة للتأنيث أو هي تأنيث أدنى ، وهي كافية في منع الصرف وتنوينها في لغة شاذة ، ولإجرائها مجرى الأسماء وخلعها عن الوصفية نكرت [ ص: 234 ] كرجعى ولو بقيت على وصفيتها لعرفت كالحسنى . واختلفوا في حقيقتها ، فقيل : هي اسم مجموع هذا العالم المتناهي ، وقيل : هي ما على الأرض من الجو والهواء أو هي كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الآخرة . قال النووي : وهذا هو الأظهر ، ويطلق على كل جزء منها مجازا وأريد هاهنا شيء من الحظوظ النفسانية ( يصيبها ) أي يحصلها لكن لسرعة مبادرة النفس إليها بالجبلة الأصلية ، شبه حصولها بإصابة السهم للغرض ، والأظهر أنه حال أي يقصد إصابتها ( أو امرأة يتزوجها ) خصت بالذكر تنبيها على سبب الحديث ، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ كما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود : كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها ، قال : فكنا نسميه مهاجر أم قيس . وفيه إشارة إلى أنه مع كونه قصد في ضمن الهجرة سنة عظيمة أبطل ثواب هجرته فكيف يكون غيره ؟ أو دلالة على أعظم فتن الدنيا لقوله تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء ولقوله عليه السلام : ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء لكن المرأة إذا كانت صالحة تكون خير متاعها ولقوله عليه الصلاة والسلام : الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه فلا ثواب له لقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب أو المعنى فهجرته مردودة أو قبيحة .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) أخرجه الجماعة . قال الحافظ : إن هذا الحديث متفق على صحته أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ ، ووهم من زعم أنه في الموطأ مغتر بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك انتهى .

                                                                                                          قلت : قال السيوطي في شرح الموطأ في رواية محمد بن الحسن عن مالك أحاديث يسيرة زائدة على سائر الموطآت منها حديث : إنما الأعمال بالنية الحديث ، وبذلك يتبين قول من عزا روايته إلى الموطأ ، ووهم من خطأه في ذلك انتهى .

                                                                                                          تنبيه :

                                                                                                          قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث . قال أبو عبد الله : ليس في [ ص: 235 ] أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث ، واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الإسلام ، ومنهم من قال ربعه ، واختلفوا في تعيين الباقي . وقال ابن مهدي أيضا : يدخل في ثلاثين بابا من العلم . وقال الشافعي : يدخل في سبعين بابا ، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة . وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا : ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب ، ووجه البيهقي كونه ثلث ، العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه ، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها ، ومن ثم ورد نية المؤمن خير من عمله ، فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين ، وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده وهي هذا ، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ، والحلال بين والحرام بين .

                                                                                                          تنبيه آخر :

                                                                                                          اعلم أن هذا الحديث المبارك يستأهل أن يفرد لشرحه جزء مبسوط بجميع فوائده ، وما يستنبط منه من الأحكام وغير ذلك ، وقد أطنب في شرحه شراح البخاري كالحافظ ابن حجر والعيني وغيرهما إطنابا حسنا مفيدا ، وإني قد اقتصرت الكلام في شرحه على ما لا بد منه ، فعليك أن تراجع شروح البخاري .




                                                                                                          الخدمات العلمية