الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال - تعالى - : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة هذا حكم آخر من أحكام النساء يرجح كون هذه الآية نزلت فيهن لا أن حكم تعددهن في الزوجية جاء عرضا وتبعا لأحكام اليتامى منهن ، أي وأعطوا النساء اللواتي تعقدون عليهن مهورهن نحلة ، أي عطاء نحلة ، أي فريضة لازمة عليكم ، وهو المروي عن قتادة ، وقال ابن جريح : فريضة مسماة ، وقيل : ديانة من النحلة بمعنى الملة ، وروى ابن جرير عن ابن عباس أن النحلة : المهر . وتقدم في تفسير المفردات أن النحلة تطلق على ما ينحله الإنسان ويعطيه هبة عن طيب نفس بدون مقابلة عوض ، وهو الذي اختاره الأستاذ الإمام هنا . قال :

                          الصدقات : جمع صدقة بضم الدال ، وفيه لغات ، منها الصداق : وهو ما يعطى للمرأة قبل الدخول عن طيب نفس ، وينبغي أن يلاحظ في هذا العطاء معنى أعلى من المعنى الذي لاحظه الذين يسمون أنفسهم الفقهاء من أن الصداق والمهر بمعنى العوض عن البضع ، والثمن له ، كلا إن الصلة بين الزوجين أعلى ، وأشرف من الصلة بين الرجل وفرسه ، أو جاريته ، [ ص: 308 ] ولذلك قال : نحلة فالذي ينبغي أن يلاحظ هو أن هذا العطاء آية من آيات المحبة ، وصلة القربى ، وتوثيق عرى المودة ، والرحمة ، وأنه واجب حتم لا تخيير فيه كما يتخير المشتري ، والمستأجر ، وترى عرف الناس جاريا على عدم الاكتفاء بهذا العطاء بل يشفعه الزوج بالهدايا والتحف .

                          أقول : الخطاب على هذا الوجه من معنى الجملة للأزواج ، وفيها وجه آخر ، وهو أن الخطاب للأولياء الذين يزوجون النساء اليتامى ، وغير اليتامى ، ويأمرهم الله - تعالى - أن يعطوهن ما يأخذونه من مهورهن من أزواجهن بالنيابة عنهن ، وكان ولي المرأة في الجاهلية يزوجها ويأخذ صداقها لنفسه دونها ، ومنهم من كان يعطي الرجل أخته على أن يعطيه أخته فلا يصيب الأختين شيء من المهر ، ولا مانع من جعل الخطاب للمسلمين جملة ، فالزوج يأخذ منه أنه مأمور بأداء المهر وأنه لا هوادة فيه ، والولي يأخذ منه أنه ليس له أن يزوج موليته بغير مهر لمنفعة له ، ولا أن يأكل من المهر شيئا إذا هو قبضه من الزوج باسمها إلا أن تسمح هي لأحد بشيء برضاها ، واختيارها ، قال - عز وجل - :

                          فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا أي إن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئا من الصداق ولو كله بناء على أن " من " في قوله : ( منه ) للبيان ، وقيل : هي للتبعيض ، ولا يجوز هبته كله ، ولا أخذه إن هي وهبته ، وإليه ذهب الإمام الليث . فأعطينه من غير إكراه ، ولا إلجاء بسوء العشرة ، ولا إخجال بالخلابة والخدعة . وقال ابن عباس : من غير ضرار ولا خديعة - فكلوه أكلا هنيئا مريئا ، أو حال كونه هنيئا مريئا ، من هنوء الطعام ومروئه إذا كان سائغا لا غصص فيه ، ولا تنغيص . وقال بعضهم : الهنيء ما يستلذه الآكل ، والمريء ما تجمل عاقبته كأن يسهل هضمه ، وتحسن تغذيته ، والمراد بالأكل مطلق التصرف - راجع ص160 ج2 [ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] - وبكونه هنيئا مريئا لا تبعة فيه ، ولا عقاب عليه .

                          الأستاذ الإمام : لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به ، فإذا طلب منها شيئا فحملها الخجل أو الخوف على إعطائه ما طلب فلا يحل له . وعلامات الرضا ، وطيب النفس لا تخفى على أحد ، وإن كان اللابسون لباس الصالحين المتحلون بعقود السبح الذين يحركون شفاههم ويلوكون ألسنتهم بما يسمونه ذكرا يستحلون أكل أموال نسائهم إذا أعطينها ، أو أجزن أخذها بالترهيب ، أو الخداع ، أو الخجل ، ويقولون : إنهن أعطيننا ، ولنا الظاهر والله يتولى السرائر . وقد قال - تعالى - في الآية الآتية : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا [ 4 : 20 ] فإذا شدد هذا التشديد في طور المفارقة فكيف يكون الحكم في طور الاجتماع والمعاشرة ؟ .

                          [ ص: 309 ] أقول : يعني أن طور المفارقة هو طور مغاضبة ، ففي الطبع داعية للمشاحة فيه ، وأما طور عقد المصاهرة فهو طور الرغبة ، والتحبب ، وإظهار الزوج أهليته لما يجب عليه من كفالة المرأة ، والنفقة عليها ، ولكن غلب حب الدرهم ، والدينار في هذا الزمان على كل شيء حتى على العواطف الطبيعية ، وحب الشرف والكرامة ، فصار كل من الزوجين وأقوامهما يماكسون في المهر كما يماكسون في سلع التجارة وإلى الله المشتكى .

                          وأما قولهم : لنا الظاهر والله يتولى السرائر فهو لا يصدق على مثل الحال المذكورة لأن باطن المرأة فيها معلوم غير مجهول ، فيدعي الأخذ بما ظهر منها ، والله - تعالى - لم يقل ( فإن أعطينكم ) حتى يقال حصل العطاء الذي ورد به النص ، وإنما ناط الحل بطيب نفوسهن عنه ، فلو لم يكن طيب النفس مما يمكن العلم به لما ناط - سبحانه - الحكم به ، فيقال لهؤلاء المحرفين : إذا كنتم تعلمون أن شرط جواز أكل ما تعطيه المرأة هو أن يكون عن طيب نفس منها ، وتعلمون أنها إنما أعطت ما أعطت كارهة أو مكرهة لما اتخذتموه من الوسائل ، فكيف تخادعون ربكم وتكابرون أنفسكم ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية