الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا أي ولا تأكلوا أموال اليتامى مسرفين في الإنفاق منها ، ولا مبادرين كبرهم إليها ، أي مسابقين الكبر في السن الذي يأخذونها به من أيديكم فتكونوا طالبين لأكل هذا المال كما يطلبه كبر سن صاحبه فيكون السابق هو الذي يظفر به .

                          قال الأستاذ الإمام : إن النهي عن أكل أموال اليتامى إسرافا وبدارا هو كالأمر قبله تفصيل للآية الناهية عن أكل أموال اليتامى إلى أموال الأولياء . وقد قيد النهي هنا بالإسراف وهو صرف مال اليتيم في غير محله ولو على اليتيم نفسه . وسمى هذا أكلا لأنه إضاعة ، والأكل يطلق على إضاعة الشيء ، ولكن ضم مال اليتيم إلى مال الولي لا يسمى إسرافا ، وقيده أيضا بالبدار والمسابقة لكبر اليتيم ; لأن الولي الضعيف الذمة يستعجل ببعض التصرفات في مال اليتيم التي له منها منفعة لئلا تفوته إذا كبر اليتيم ، وأخذ ماله ، فهاتان الحالان : الإسراف وبدار ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف ، هما من مواضع الضعف التي تعرض للإنسان ، فنبه الله - تعالى - عليهما ، ونهى عنهما ليراقب الولي ربه فيهما إذا عرضتا له .

                          أقول : إن من دقق النظر في هاتين الحالين ، ووقف على تصرف الأولياء فيهما يرى أنهما مما يعرض فيه التأويل ومخادعة النفس للإنسان لاختلاف الناس في حد الإسراف ، وخفاء وجه منفعة الولي في المسابقة إلى بعض الأعمال في مال اليتيم ، وما كان موضع خلاف ، وخفاء لا ينكره ، ولا ينتقده جمهور الناس ، ومن أنكره يسهل الرد عليه ، وتأول ما فعله الولي ، والقول بأنه تصرف وضع في محله ، وعمل في وقته ، ومثل هذا مما قد تغش الولي فيه نفسه حتى يصدق أنه لا حرج فيه ، وقد يعلم أنه تصرف غير جائز في الباطن ، ويكتفي بأنه لا يمكن أن يماري فيه أحد مراء ظاهرا تتضح فيه خيانته ; فلأجل هذا ، وذاك صرح الكتاب الحكيم بالنهي عنه ليتدبره أولو الألباب .

                          أما الأكل منها بغير إسراف ولا مبادرة خوف أخذها عند البلوغ والرشد - كما هو شأن الخائن - فقد ذكر حكمه في قوله : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف أي فمن كان منكم غنيا غير محتاج إلى مال اليتيم الذي في حجره ، وتحت ولايته فليعف عن الأكل من ماله ، أو ليطالب نفسه ويحملها على العف عنه نزاهة وشرف [ ص: 319 ] نفس . ومن كان فقيرا لا يستغني عن الانتفاع بشيء من مال اليتيم الذي يصرف بعض وقته ، أو كله في تثميره ، وحفظه فليأكل منه بالمعروف الذي يبيحه الشرع ولا يستنكره أهل المروءة ، والفضل ، ولا يعدونه طمعا ، ولا خيانة .

                          وقد اختلف المفسرون ، والفقهاء في الأكل بالمعروف الذي أذن الله به للولي الفقير فقيل : هو القرض يأخذه بنية الوفاء ، وروي هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس - رضي الله عنهم - ، وعبارة الأخير في بعض روايات ابن جرير : إن كان غنيا فلا يحل له من مال اليتيم أن يأكل منه شيئا ، وإن كان فقيرا فليستقرض منه ; فإن وجد ميسرة فليعطه ما استقرض منه فذلك أكله بالمعروف . وقال مثله سعيد بن جبير ، وزاد : وإن حضره الموت ولم يوسر يتحلله من اليتيم ، وإن كان صغيرا يتحلله من وليه ; وهو يعني وليه الذي يكون بعده . وعن الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة ، فإن أكل منه شيئا قضاه . واختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف فعن ابن عباس يأكل بأطراف أصابعه . ووضحه السدي ، فقال : يأكل معه بأصابعه لا يسرف في الأكل ، ولا يلبس . وعن عكرمة أنه قال : يدك مع أيديهم ، ولا تتخذ منه قلنسوة ، وقال بعضهم : الأكل بالمعروف : هو ما سد الجوعة ووارى العورة . أي قدر الضرورة من الطعام ، والكسوة . وقال آخرون : هو أن يأكل من غلة المال كلبن الماشية ، وصوفها ، وثمرات الشجر ، وغلة الزرع ولا يأخذ من رقبة المال شيئا . وقال غيره : يأخذ قدر كفايته ، وعن عطاء : يضع يده مع أيديهم فيأكل معهم كقدر خدمته وقدر عمله . ومن هنا قال بعض الفقهاء : إن له أجر مثله من مال اليتيم الذي يتولى تدبير أمواله ، وهذا هو الذي اختاره ابن جرير فقال : إن الأمة مجمعة على أن مال اليتيم ليس مالا للولي فليس له أن يأكل منه شيئا ، ولكن له أن يستقرض منه عند الحاجة كما يستقرض له ، وله أن يؤاجر نفسه لليتيم بأجرة معلومة إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك ، كما يستأجر له غيره من الأجراء غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر اهـ . يعني أن الأكل بالمعروف هو القرض والأجرة ، ولا يباح أكل شيء منه بلا غوص كسائر أموال الناس . قال : وكذلك الحكم في أموال المجانين والمعاتيه ، ولكن ما ذكر في كيفية الأكل لا يظهر في الاستقراض ، وقد يظهر في الأجرة .

                          وأقول : من الحديث المرفوع في المسألة أن ابن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ليس لي مال ، وإني ولي يتيم ، فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ، ولا متأثل مالا ، ومن غير أن تقي مالك بماله رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه . ووجهه أن اليتيم يكون في بيت الولي كولده والخير له في تربيته أن يخالطه الولي هو وأهله في المؤاكلة ، والمعاشرة ، فإذا كان الولي غنيا ، ولا طمع له في ماله كان اليتيم هو الرابح من هذه المخالطة ، وإن كان يصرف فيها شيء من ماله بقدر حاجته ، وإن كان الولي فقيرا فإنه لا يستغني عن [ ص: 320 ] إصابة بعض ما يحتاج إليه من مال اليتيم الغني الذي في حجره ، فإذا أكل من طعامه ، وثمره ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من رقبة المال شيئا ، ولا متأثل لنفسه منه عقارا ، ولا مالا آخر ، ولا مستخدما ماله في مصالحه ومرافقه كان في ذلك آكلا بالمعروف ، هذا هو المختار عندي ، وراجع تفسير ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم [ 2 : 220 ] في الجزء الثاني من التفسير [ ص271 وما بعدها ج 2 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية