الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الثاني

                                                                                                                في التعريض بالقذف

                                                                                                                قاعدة ، الصريح في كل باب : ما يتعين له وضعا ، والكناية : ما يحتمله مع غيره .

                                                                                                                وفي الكتاب : إن قال : يا مخنث ، حد ، إلا أن يحلف ما أراد قذفا ، فيؤدب . قال ابن يونس : قال غيره : هذا إن كان في كلامه ، أو عمله ، أو بدنه توضيع ، وإلا حد ، ولم يحلف ; لاشتهاره في الفاحشة . وأصل التخنث : الميل ، وقد يكون صاحبه متقيا ، ومنه المخنث الذي يدخل على بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وتخنثه الصاننه ) .

                                                                                                                [ ص: 94 ] فرع :

                                                                                                                في الكتاب : يا فاجر ، أو يا فاسق ، أو يا ابن الفاجرة أو الفاسقة ، حد ، أو يا خبيث ، حلف : ما أراد قذفا ; لقلة ظهوره في القذف ، فإن لم يحلف ، سجن حتى يحلف ، فإن طال سجنه ، نكل على حسب حاله ، والمعروف بالأذية يبالغ في عقوبته . والفاضل ذو المروءة ، يتجافى عن حقيقته ، ويخفف في أدب عظيمة ،ويا تاجر بفلانة ، يحد ، إلا أن يقيم بينة على أمر صنعه معها من الفجور ، كجحد مال ونحوه ، ويحلف : ما أراد إلا ذلك ; لأنه يحتمل جامعت فلانة . وإن قال باضعتها حراما ، أو وطئتها ، وقال : أردت تزوجتها تزويجا حراما ، أو قال ذلك عن نفسه ، وطالبته المرأة ، حد ، إلا أن يقيم بينة على مراده ، ويحلف : ما أراد إلا ذلك ، وكنت وطئت أمك ، وقال : أردت النكاح . إن أتى ببينة أنه تزوجها ، لم يحد ، وإلا حد . وإن قال له : ما أنا بزان ، أو أخبرت أنك زان ، حد ، أو أشهدني فلان أنك زان ، حد ، إلا أن يقيم بينة على قول فلان ، وكذلك يقول لك فلان : يا زان ، أو جامعتها بين فخذيها ، أو أعكانها ، حد ، وقال الأئمة : لا حد في التعريض . غير أن مالكا قال : يحد به إن نوى به القذف ، كسائر الكنايات في الطلاق وغيره . لنا : قوله تعالى عن قوم شعيب : ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) ، ومرادهم : ضد ذلك ، وهو كثير القرآن . وفي الموطأ ( أن [ ص: 95 ] رجلين استبا على عهد عمر - رضي الله عنه - فقال أحدهما : والله ما أبي بزان ، ولا أمي بزانية ، فاستشار عمر بن الخطاب ، فقال قائلون : مدح أباه وأمه ، وقال آخرون : قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا ، فجلده عمر ثمانين ، وقال : ( حمى الله لا ترعى حواليه ) ولأنه يفهم القذف ، فيحد به كالصريح . احتجوا بأنه يحتمل القذف وغيره ، فلا يوجب ، كما إذا قال : اسقني ماء ، وقال : أردت القذف . وهذا أبلغ ; لأنه صرح بإرادته القذف ; ولأنه لما احتمل الأمر ، وجب أن يرجح اللفظ على الموجب ، كالأمة المشتركة . وهذا أولى للقطع بوجود الموجب ، وهو النصيب الذي ليس بمشترك ، ومع ذلك سقط الحد . ولأنه تعريض ، فوجب أن يلحق بالتصريح ، كالخطبة في العدة ; ولأنه لا يكون قذفا مع عدم القرائن ، كقوله : أنت جميلة وأريبة .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن القرائن مع اللفظ تصيره كالصريح ، بخلاف مجرد النية ; لذلك تقول العرب : رب إشارة ، أفصح من عبارة ، والتعريض عندهم أبلغ موقعا .

                                                                                                                وعن الثاني : الفرق بأن القرائن تنفي الاحتمال الآخر ، فيصير كوطء الأجنبية .

                                                                                                                وعن الثالث : أن هذا الباب أحرج ; لأنه لو أراد بالتعريض القذف ، حرم إجماعا ، ولو أراد النكاح ، عين الج .

                                                                                                                وعن الرابع : منع الحكم إذا صيرته القرائن تصريحا في القذف ، وإلا فعدم القرائن يعني الفرق .

                                                                                                                [ ص: 96 ] تفريع :

                                                                                                                قال ابن يونس في الموازية : القائل : يا قرنان لرجل ، جلد لزوجته ; لأنه عند الناس من امرأته تفجر ( قاله ابن القاسم ) ، وقال يحيى بن عمر : لا يحد ، ويجلد عشرين ، ويأمر آخر ، وقال أشهب : يحد ، قال يحيى بن عمر ، يا قحبة ، يحد ; لأن العرب كانت تدعو على الفاجرة بالقحاب والهرثاء ، أي : السفال ، والقبح في الدابة ، حتى صارت الفاجرة تسمي قحبة ; لغلبة الاستعمال . ويا مأبونا ، قال عبد الملك : يحد ; لأنه من الأبنة : وهي داء في الدبر ، يبعث على طلب ما يحك به ذلك الموضع ، وإن اشتهر في اللواط في المفعول به . وإن قال له : يا ابن الزانية ، فقال له : أمك شر منها ، في الموازية : يحدان . أو يا أحمق ، فقال الآخر : أحمقنا ابن الزانية ، يحد . وعن ابن القاسم في : يا فاجرا بفلانة ، يحلف : ما أراد قذفا ، وكذلك يا خبيث ، ويا ولد إيش ، قال ابن القاسم : يحد ، ويا ابن الفاسقة . والفاجر ، يحلف ، فإن امتنع سجن ، وإن طال سجنه ولم يحلف ، أدب وخلي . وقال عبد الملك : في هذا كله النكال ، ويا مؤنث ، وفي كلامه لين ، حلف ، وأدب . وقال أشهب : يحد في : زنى فرجك ، دون : زنت رجلك ، ويا ابن منزلة الركبان ، يحد ; لأن المرأة في الجاهلية كانت إذا طلبت الفاحشة أنزلت الركبان ، وكذلك يا ابن ذات الراية ; لأن في الجاهلية كانت على باب البغية راية .

                                                                                                                تنبيه : ضبط هذا الباب : الاشتهار العرفية ، أو القرائن الحالية ، فمتى فقد [ ص: 97 ] أحلف ، أو وجد أحدهما ، حد ، وإن انتقل العرف ، فيقال : الأصل : الحد ، ويختلف ذلك بحسب الأعصار والأمصار ، وبهذا يظهر أن ذات الراية ، ومنزلة الركبان ، لا يوجب حدا ، وأنه إن اشتهر لفظ أحدهما ، لا يوجب حدا ، إلا في القذف أوجب الحد .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في النوادر . قال ابن القاسم : إن قال . رأيت فلانا مع فلانة في بيت ، أو على بطنها ، أو قال : في لحاف ، أو قال رأيتك تطلب امرأة في أثرها ، أو تقبلها ، أو اقتحمت عليها بيتها ، أو في مقعد الرجل من المرأة ، لا يحد ، بل يؤدب ; لأن ذلك لا يتوقف على الزنا ، ويحلف : ما أراد قذفا ، أو قال لامرأته : قد سرحتك من زنا ، حد ، ولا طلاق عليه . قال مطرف : إن قال : كيف تكلمني وأنا نكحت أمك ؟ وكانت زوجتي ، قال مالك : إن لم يقم بينة أنه تزوجها : حد للقذف ، وقال عبد الملك : لا يحد ; لأنه لو أقام شاهدين بالزواج كفاه ، ولو كان قذفا لم يجرح ، إلا بأربعة . ولو كان في غير منازعة ، لم يحد وإن قذفه فشكاه ، ثم خاصم آخر ، فقال له : سمعت فلانا يقول لك : يا زان ، فما لك اشتكيته ، أي : موجدة عليك ، فيحد .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : قال مالك : لا يحد الأب بالتعريض ، بل بالتصريح ، كالقصد في القتل ، ويجوز عفوه عن القذف ، وإن لم يرد سترا عند الإمام ، وقال أصبغ : لا يحد الأب أصلا ; لعظيم حقه . وقال ( ش ) و ( ح ) ، وفي المنتقى : وإن حده أسقطنا عدالة الابن ; لأنه عقوق ، وإن قال لولده : لست ابني ، فطلبت الأم أو الولد من غيره [ ص: 98 ] الحد لقذف وقد كان فارقها ، فعفا ولده ، قال مالك : يحلف ما أراد قذفا ، بل لو كان ولدي ما كان يصنع ما صنع ، قال : وهذا يقتضي الحد إن لم يحلف ، وأنه لا يسقط بعفو الولد إذا قام البعض ، فالحد وغيره لا يلحق بالأب ، بل يحدون ولا يعذرون في الشتم إن كان على وجه الأدب ، قال ابن القاسم وأشهب : يجوز عفوه عن جده لأبيه ، وإن بلغ الإمام دون جده لأمه ; لأنه لا يدلي في الميراث بهما ، وقال عبد الملك : يجوز عفوه عن أمه وإن لم يرد سترا ; لأن الإشفاق قد يحمله عند رؤيتها على الاعتراف بالزنا .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الجواهر : يا نغل ، يوجب الحد ، وإن قال لنفسه : أنا نغل ، حد ; لأنه قذف أمه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية