الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) .

[ ص: 35 ] أصل الكنز في اللغة الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة . قال :


لا در دري إن أطعمت ضائعهم قرف الحتي وعندي البر مكنوز



وقالوا : رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه . وقال الراجز :


على شديد لحمه كناز     بات ينزيني على أوفاز



ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة . الكي : معروف ، وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد . والجبهة : معروفة ، وهي صفحة أعلى الوجه . والغار : معروف وهو نقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه ، وقال ابن فارس : الغار الكهف ، والغار نبت طيب الريح ، والغار الجماعة ، والغاران البطن والفرج . ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه ، وناقة ثبطة أي بطيئة السير . وأصل التثبيط التعويق ، وهو أن يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه . الزهق : الخروج بصعوبة ، قال الزجاج : بالكسر خروج الروح ، وقال الكسائي والمبرد : زهقت نفسه وزهقت لغتان ، والزهق الهلاك ، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر ، والزهوق البعد ، والزهوق البئر البعيدة المهواة . الملجأ : مفعل من لجأ إلى كذا : انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا : اضطررته . جمح : نفر بإسراع ، من قولهم : فرس جموح ; أي لا يرده اللجام إذا حمل . قال :


سبوحا جموحا وإحضارها     كمعمعة السعف الموقد



وقال مهلهل :


وقد جمحت جماحا في دمائهم     حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا



وقال آخر :


إذا جمحت نساؤكم إليه     أشظ كأنه مسد مغار



جمز : قفر ، وقيل : بمعنى جمح . قال رؤبة :


قاربت بين عنقي وجمزي



اللمز : قال الليث : هو كالغمز في الوجه . وقال الجوهري : العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها . وقال الأزهري : أصل اللمز الدفع ، لمزته دفعته . الغرم : أصله لزوم ما يشق ، والغرام العذاب الشاق ، وسمي العشق غراما لكونه شاقا ولازما .

( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللهوالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) لما ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، ذكر ما هو كثير منهم تنقيصا من شأنهم وتحقيرا لهم ، وأن مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم ، فضلا عن اتخاذهم أربابا لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل ، وصدهم عن سبيل الله . واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة ، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين : أكل المال بالباطل ، وكنز المال إن ضنوا أن ينفقوها في سبيل الله ، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال أتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع ، وغير ذلك مما يوهمونهم به أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله ، وهم يحجبون تلك الأموال كالراهب الذي استخرج سلمان كنزه . وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام ، كإيهام حماية دينهم ، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإسلام واتباع الرسول . وقيل : الجور في الحكم ، ويحتمل أن يكون يصدون متعديا ، وهو أبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون قاصرا .

وقرأ الجمهور : والذين بالواو ، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين . وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله : فبشرهم . وقيل : والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان . وروي هذا القول عن عثمان [ ص: 36 ] ومعاوية . وقيل : كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين ، وروي هذا القول عن السدي ، والظاهر العموم كما قلناه ، فيقرن بين الكانزين من المسلمين ، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظا ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب . وروي العموم عن أبي ذر وغيره . وقرأ ابن مصرف : الذين بغير واو ، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم ، ويحتمل الاستئناف والعموم . والظاهر ذم من يكنز ولا ينفق في سبيل الله . وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء ، وأنه يكوى بها إلى غير ذلك من أحاديث ، هو قبل أن تفرض الزكاة ، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، فلذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، فأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل ما أديت زكاته فليس بكنز " . وعن عمر أنه قال لرجل باع أرضا : أحرز مالك الذي أخذت ، احفر له تحت فراش امرأتك ، فقال : أليس بكنز ؟ فقال : " ما أدي زكاته فليس بكنز " . وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك . وقال علي : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما زاد عليها فهو كنز ، وإن أديت زكاته . وقال أبو ذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز . وهذان القولان يقتضيان أن الذم في جنس المال ، لا في منع الزكاة فقط . وقال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله : " ( خذ من أموالهم صدقة ) " ، فأتى فرض الزكاة على هذا كله ، كأن الآية تضمنت : لا تجمعوا مالا فتعذبوا ، فنسخه التقرير الذي في قوله : ( خذ من أموالهم صدقة ) ، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالا من جهة أذن له فيها ويؤدي عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه . وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبيد الله ، يقتنون الأموال ويتصرفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة ; لأن الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا ، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، وما روي عن علي كلام في الأفضل .

وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : يكنزون بضم الياء ، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال ; لأنهما قيم الأموال وأثمانها ، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة ، ومن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال ، وكنزهما يدل على ما سواهما . والضمير في : ( ولا ينفقونها ) عائد على الذهب ; لأن تأنيثه أشهر ، أو على الفضة ، وحذف المعطوف في هذين القولين ، أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعا ، فروعي المعنى كقوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم ، أو على المكنوزات ، لدلالة ( يكنزون ) . أو على الأموال ، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه ( ولا ينفقونها ) ، أو على الزكاة ; أي : ولا ينفقون زكاة الأموال ، أقوال . وقال كثير من المفسرين : عاد على أحدهما كقوله : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا ) وليس مثله ; لأن هذا عطف بأو ، فحكمهما أن الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو ، إلا إن ادعى أن الواو في ( والفضة ) بمعنى أو ليمكن ، وهو خلاف الظاهر .

( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) يقال : حميت الحديدة في النار ; أي أوقدت عليها لتحمى ، وتقول : أحميتها أدخلتها لكي تحمى أيضا فحميت . وقرأ الجمهور : ( يوم يحمى عليها ) بالياء ، أصله يحمي النار عليها ، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور ، لم تلحق التاء كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير . وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت : رفع إلى الأمير ، ويدل على أن ذلك في الأصل مسند إلى النار ، قراءة الحسن وابن عامر في رواية ( تحمى ) بالتاء . وقيل : من قرأ بالياء فالمعنى : يحمى الوقود ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى : تحمى النار . وهو الناصب ليوم أليم ، أو مضمر [ ص: 37 ] يفسره عذاب ؛ أي : يعذبون يوم يحمى . وقرأ أبو حيوة : ( فيكوى ) بالياء ، لما كان ما أسند إليه تأنيثه حقيقيا ، ووقع الفصل أيضا ذكر ، وأدغم قوم ( جباههم ) وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير ، كما أدغم ( مناسككم ) و ( ما سلككم ) . وخصت هذه المواضع بالكي قيل : لأنه في الجبهة أشنع ، وفي الجنب والظهر أوجع . وقيل : لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر ، بخلاف اليد والرجل . وقيل : معناه يكوون على الجهات الثلاث : مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم . وقيل : لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم ، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم . وقال الزمخشري : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدم ، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم ، يتلقون بالجميل ، ويحيون بالإكرام ، ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها ، وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم . لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذهب أهل الدثور بالأجور " . وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا بأركانهم ، وولوا ظهورهم . وأضمر القول في ( هذا ما كنزتم ) ; أي : يقال لهم وقت الكي . والإشارة بهذا إلى المال المكنوز ، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ( ما كنزتم ) ; أي : هذا الكي نتيجة ما كنزتم ، أو ثمرة ما كنزتم . ومعنى ( لأنفسكم ) : لتنتفع به أنفسكم وتلتذ ، فصار عذابا لكم ، وهذا القول توبيخ لهم . ( فذوقوا ما كنتم ) ; أي : وبال المال الذي كنتم تكنزون . ويجوز أن تكون ما مصدرية ; أي : وبال كونكم كانزين . وقرئ ( يكنزون ) بضم النون . وفي حديث أبي ذر : " بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم " ، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم : " الوعيد الشديد لمانع الزكاة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية