الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) : لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وقص فيها أحوال المنافقين شيئا فشيئا ; خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم ، أو من نسبهم عربيا قرشيا ، يبلغهم عن الله ، متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ، ويحرص على هداهم ، ويرأف بهم ، ويرحمهم . قال ابن عباس : ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه قال : يا معشر العرب ، لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل ، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل ، ويحتمل أن يكون خطابا لبني آدم ، والمعنى : أنه لم يكن من غير جنس بني آدم ، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله : [ ص: 118 ] ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) ولما كان المخاطبون عاما ، إما عامة العرب ، وإما عامة بني آدم - جاء الخطاب عاما بقوله : ( عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم ) ، أي : على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك . ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة ; جاء متعلقها خاصا ، وهو قوله : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) . ألا ترى إلى قوله : ( جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) وقال : ( أعزة على الكافرين ) وقال في زناة المؤمنين : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) . قال ابن عطية : وقوله ( من أنفسكم ) يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها ، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إني من نكاح ولست من سفاح " معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا . انتهى . وصف الله نبيه - عليه السلام - بستة أوصاف : الرسالة ؛ وهي صفة كمال الإنسان ; لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية ، وكونه من الخيار بحيث أهل أن يكون واسطة بين الله وبين خلقه ، ولما كانت هذه الصفة أشرف بدئ بذكرها . وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في التبليغ والفهم عنه والتآنس به ، فإن كان خطابا للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه ، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم ، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة . وكونه يعز عليه ما يشق عليكم ، فهذا الوصف من نتائج الرسالة . ومن كونه من أنفسهم ، لأن من كان منك ود لك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك . وكونه حريصا على هدايتهم ، وهو أيضا من نتائج الرسالة ، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية . وكونه رءوفا رحيما بالمؤمنين ، وهما وصفان من نتائج التبعية له ، والدخول في دين الله . ( إنما المؤمنون إخوة ) المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، حتى تحب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك .

وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب عن أبي عمرو ، وعبد الله بن قسيط المكي ، ويعقوب من بعض طرقه : ( من أنفسكم ) بفتح الفاء . ورويت هذه القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن فاطمة ، وعائشة رضي الله عنهما ، والمعنى : من أشرفكم وأعزكم ، وذلك من النفاسة ، وهو راجع لمعنى النفس ، فإنها أعز الأشياء . والظاهر أن " ما " مصدرية في موضع الفاعل بـ ( عزيز ) ، أي : يعز عليه مشقتكم ، كما قال :


يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا



أي : يسر المرء ذهاب الليالي . ويجوز أن يكون ( ما عنتم ) مبتدأ ، أي : عنتكم عزيز عليه ، وقدم خبره ، والأول أعرب . وأجاز الحوفي أن يكون ( عزيز ) مبتدأ ، و ( ما عنتم ) الخبر ، وأن تكون " ما " بمعنى الذي ، وأن تكون مصدرية ، وهو إعراب دون الإعرابين السابقين . وقال ابن القشيري : ( عزيز ) صفة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته ، ثم استأنف فقال : ( عليه ما عنتم ) ، أي : يهمه أمركم . انتهى . والعنت : تقدم شرحه في البقرة في قوله : ( لأعنتكم ) . وقال ابن عباس : هنا مشقتكم . وقال الضحاك : إثمكم . وقال سعيد بن أبي عروبة : ضلالكم . وقال العتبي : ما ضركم . وقال ابن الأنباري : ما أهلككم . وقيل : ما غمكم . والأولى أن يضمر في ( عليكم ) ، أي : على هداكم وإيمانكم كقوله : ( إن تحرص على هداهم ) وقوله : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) . وقيل : حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة . وقال الفراء : الحريص هو الشحيح ، والمعنى : أنه شحيح عليكم [ ص: 119 ] أن تدخلوا النار . وقيل : حريص على دخولكم الجنة . وإنما احتيج إلى الإضمار ؛ لأن الحرص لا يتعلق بالذوات . ويحتمل ( بالمؤمنين ) أن يتعلق بـ ( رءوف ) ، ويحتمل أن يتعلق بـ ( رحيم ) ، فيكون من باب التنازع . وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر ، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما ، وأجاز بعض النحويين التقديم ، فتقول : زيدا ضربت وشتمت على التنازع ، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين . وقال قوم : بالتوزيع ، رءوف بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين . وقيل : رءوف بمن رآه ، رحيم بمن لم يره . وقيل : رءوف بأقربائه ، رحيم بغيرهم . وقال الحسن بن الفضل : لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإنه قال : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) ، وقال تعالى : ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) .



التالي السابق


الخدمات العلمية