الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار

"الرؤية" في هذه الآية رؤية عين، والتقدير: أن أمر الله وقدرته. و "يزجي" معناه: يسوق، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل ومدافعته كالسحاب والإبل المزاحف، كما قال الفرزدق :


............................. على مزاحف تزجيها محاسير

[ ص: 398 ] والبضاعة المزجاة: التي تحتاج من الشفاعة والتحسين إلى ما هو كسوق الثقيل، ومنه قول حبيب في الشيب: "ونحن نزجيه" وسيبويه أبدا يقول في كلامه: "فأنت تزجيه إلى كذا"، أي تسوقه ثقيلا متباطئا.

وقوله تعالى: ثم يؤلف بينه أي بين مفترق السحاب نفسه; لأن مفهوم السحاب يقتضي أن بينه فروجا، وهذا كما تقول: جلست بين الدور، ولو أضيفت "بين" إلى مفرد لم يصح إلا أن تريد آخر، لا تقول: "جلست بين الدار" إلا أن تريد: "وبين كذا".

وورش عن نافع لا يهمز "يؤلف"، وقالون عن نافع ، والباقون يهمزون "يؤلف"، وهو الأصل.

و "الركام": الذي يركب بعضه بعضا ويتكاثف، والعرب تقول: إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما بالريح عصر بعضه بعضا فخرج الودق منه، ومن ذلك قوله تعالى: وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت :


كلتاهما حلب العصير فعاطني     بزجاجة أرخاهما للمفصل

[ ص: 399 ] ويروى "للمفصل" بكسر الميم وبفتح الصاد، فالمفصل: واحد المفاصل، والمفصل: اللسان، ويروى بالقاف، أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت به، أي: هذه من عصر العنب وهذه من عصر السحاب، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبد الله بن الحسن للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان .

و "الودق": المطر، ومنه قول الشاعر:


فلا مزنة ودقت ودقها     ولا أرض أبقل إبقالها

وقرأ جمهور الناس: "من خلاله" وهو جمع خلل، كجبل وجبال، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما، والضحاك : "من خلله". وقرأ عاصم ، والأعرج : "وينزل" على المبالغة، والجمهور على التخفيف.

وقوله تعالى: من جبال فيها من برد قيل: تلك حقيقة، وقد جعل الله تعالى في السماء جبالا من برد، وقالت فرقة: ذلك مجاز، وإنما أراد وصف كثرته، وهذا كما تقول: عند فلان جبال من المال، وجبال من العلم، أي في الكثرة مثل الجبال، وحكي عن الأخفش تقديره زيادة "من" في قوله تعالى: "من برد"، وهو قول ضعيف، و "من" في قوله تعالى: "من السماء" هي لابتداء الغاية، وفي قوله: "من جبال" هي للتبعيض، وفي قوله: "من برد" هي لبيان الجنس.

[ ص: 400 ] و "السنا" (مقصور): الضوء، و "السناء" (ممدودا): المجد والارتفاع في المنزلة، وقرأ الجمهور : "سنا" بالقصر، وقرأ طلحة بن مصرف : "سناء" بالمد والهمز، وقرأ طلحة أيضا: "برقه" بضم الباء وفتح الراء، وهي جمع برقة -بضم الباء وسكون الراء- فعلة، وهي القدر من البرق، كلقمة ولقم وغرفة وغرف، وقرأ الجمهور : "يذهب" بفتح الياء، وقرأ أبو جعفر : "يذهب" بضمها، من أذهب، كأن التقدير: يذهب النفوس بالأبصار، نحو قوله: تنبت بالدهن ، ويحتمل أن يكون كقوله: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم [الحج: 25] فالباء زائدة دالة على فعل يناسبها.

ثم اقتضت ألفاظ الآية الإخبار عن تقليب الليل والنهار، والإتيان بهذا بعد هذا دون توطئة، وهذا هو الذي تعجز عنه الفصحاء حتى يقع منهم التخليق في الألفاظ والتوطئة بالكلام، وباقي الآية بين.

التالي السابق


الخدمات العلمية