الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          ولا يحل للمسلمين الفرار من ضعفهم إلا متحرفين إلى القتال ، أو متحيزين إلى فئة وإن زاد الكفار ، فلهم الفرار إلا أن يغلب على ظنهم الظفر . وإن ألقي في مركبهم نار ، فعلوا ما يرون السلامة فيه ، وإن شكوا ، فعلوا ما شاءوا من المقام أو إلقاء نفوسهم في الماء ، وعنه : يلزمهم المقام .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( ولا يحل للمسلمين ) ولو ظنوا التلف ( الفرار ) لقوله تعالى : إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار [ الأنفال : 15 ] ولأنه - صلى الله عليه وسلم - عد الفرار من الكبائر ، وشرطه أن لا يزيد عدد الكفار على مثلي المسلمين ، وهو المراد بقوله ( من ضعفهم ) لقوله تعالى : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين [ الأنفال : 66 ] قال ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة [ ص: 317 ] فما فر ، وفي " المنتخب " : لا يلزم ثبات واحد لاثنين ، وكلام الأكثر بخلافه .

                                                                                                                          ونقل الأثرم وأبو طالب إلا متحرفين إلى قتال أو متحيزين إلى فئة . لقوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله [ الأنفال : 16 ] ومعنى التحرف للقتال : أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن كمن كان في وجه الشمس والريح ، أو في مكان ينكشف فيه ، فينحرف واحدة ، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب .

                                                                                                                          قال : عمر يا سارية الجبل . فانحازوا إليه وانتصروا على عدوهم ، ومعنى التحيز إلى فئة : هو أن يصير إلى قوم من المسلمين ليكون معهم ، فيقوى بهم على العدو . وظاهره ولو بعدت المسافة ، كخراسان ، والحجاز ، لحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني فئة لكم وكانوا بمكان بعيد منه ، وقال عمر : أنا فئة لكل مسلم ، وكان بالمدينة ، وجيوشه بالشام ، والعراق ، وخراسان رواهما سعيد .

                                                                                                                          ( وإن زاد الكفار ) على مثليهم ( فلهم الفرار ) قال ابن عباس : لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين [ الأنفال : 65 ] . شق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ، ثم جاء التخفيف فقال : الآن خفف الله عنكم الآية [ الأنفال : 66 ] فلما خفف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد رواه أبو داود . وظاهره أنه يجوز لهم الفرار من أدنى زيادة ، وهو أولى مع ظن التلف بتركه ، وأطلق ابن عقيل استحباب الثبات للزائد ، لما في ذلك من المصلحة ( إلا أن يغلب على ظنهم ) أي ظن المسلمين ( الظفر ) فيلزمهم المقام ، ولا يحل لهم الفرار لينالوا درجة الشهداء [ ص: 318 ] المقبلين على القتال محتسبين ، فيكونوا أفضل من المولين . وما ذكره المؤلف هو قول في المذهب ، والأشهر أن ذلك هو الأولى ، وليس بواجب ، صرح به في " المغني " و " الشرح " وحمل ابن المنجا كلامه هنا على الأولى ، جمعا بين نقله وموافقة الأصحاب ، وكأنه لم يقف على الخلاف فيه . وظاهره أنه إذا غلب على ظنهم الهلاك فالأولى الثبات والقتال . وعنه : لزوما ، قال أحمد : ما يعجبني أن يستأسر . وقال : فليقاتل أحب إلي إلا لأمر شديد . وقال عمار : من استأسر برئت منه الذمة ، فلهذا قال الآجري : يأثم ، ولأنه قول أحمد ، وإن استأسروا جاز . قاله في " البلغة " .

                                                                                                                          تنبيه : إذا نزل العدو ببلد فلأهله التحصن منهم ، وإن كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد وقوة ، ولا يكون توليا ، ولا فرارا ( وإن ألقي في مركبهم نار ) واشتعل بهم ( فعلوا ما يرون السلامة فيه ) لأن حفظ الروح واجب ، وغلبة الظن كاليقين في أكثر الأحكام ، فهنا كذلك ( وإن شكوا فعلوا ما شاءوا من المقام ، أو إلقاء نفوسهم في الماء ) هذا هو المذهب ، لأنهم ابتلوا بأمرين ، ولا مزية لأحدهما على الآخر ، وكظن السلامة في المقام ، والوقوع في الماء ظنا متساويا ؛ لكن قال أحمد : كيف يصنع ؛ قال الأوزاعي : هما مرتبتان فاختر أيسرهما .

                                                                                                                          ( وعنه : يلزمهم المقام ) نصرهما القاضي وأصحابه ، لأنهم إذا ألقوا أنفسهم في الماء كان موتهم بفعلهم ، وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم ، وعنه : يحرم ، ذكرها ابن عقيل ، وصححها ، وصحح في " النهاية " الأولى ، قال : لأنهم ملجأون إلى الإلقاء ، فلا ينسب إليهم الفعل بوجه ، ولعل الله يخلصهم .




                                                                                                                          الخدمات العلمية