الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 265 ] ( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ) : الزلفة : قال الليث : طائفة من أول الليل ، والجمع : الزلف ، وقال ثعلب : الزلف : أول ساعات الليل ، واحدها زلفة .

وقال أبو عبيدة والأخفش وابن قتيبة : الزلف : ساعات الليل وآناؤه ، وكل ساعة زلفة . وقال العجاج :


ناح طواه الأين منا وجفا طي الليالي زلفا فزلفا     سماؤه الهلال حتى احقوقفا

وأصل الكلمة من الزلفى وهي : القربة ، ويقال : أزلفه فازدلف ، أي : قربه فاقترب ، وأزلفني : أدناني . الترف : النعمة ، صبي مترف : منعم البدن ، ومترف : أبطرته النعمة وسعة العيش . وقال الفراء : أترف : عود الترفة وهي النعمة .

( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( ، لما ذكر تعالى قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة ، وأتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء ، شرح للرسول - صلى الله عليه وسلم - أحوال الكفار من قومه ، وأنهم متبعو آبائهم كحال من تقدم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال .

وهؤلاء : إشارة إلى مشركي العرب باتفاق ، وأن ديدنهم كديدن الأمم الماضية في التقليد والعمى عن النظر في الدلائل والحجج . وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وعدة بالانتقام منهم ، إذ حالهم في ذلك حال الأمم السالفة ، والأمم السالفة قد قصصنا عليك ما جرى لهم من سوء العاقبة .

والتشبيه في قوله : ( كما يعبد ) معناه : أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت ، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم ، فسينزل بهم مثله .

( وما يعبد ) : استئناف جرى مجرى التعليل للنهي عن المرية ، وما في ( مما ) وفي ( كما ) يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي . وقرأ الجمهور : ( لموفوهم ) مشددا من وفى ، وابن محيصن مخففا من أوفى ، والنصيب هنا قال ابن عباس : ما قدر لهم من خير ومن شر .

وقال أبو العالية : من الرزق . وقال ابن زيد : من العذاب ، وكذا قال الزمخشري قال : كما وفينا آباءهم أنصباءهم ، و ( غير منقوص ) : حال من نصيبهم ، وهو عندي : حال مؤكدة ، لأن التوفية تقتضي التكميل .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف نصب ( غير منقوص ) حالا [ ص: 266 ] من النصيب الموفى ؟ ( قلت ) : يجوز أن يوفى وهو ناقص ، ويوفى وهو كامل .

ألا تراك تقول : وفيته شطر حقه ، وثلث حقه ، وحقه كاملا وناقصا ؟ انتهى . وهذه مغلطة إذا قال : وفيته شطر حقه ، فالتوفية وقعت في الشطر ، وكذا ثلث حقه ، والمعنى : أعطيته الشطر أو الثلث كاملا لم أنقصه منه شيئا .

وأما قوله : وحقه كاملا وناقصا ، أما كاملا فصحيح ، وهي حال مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال ، وأما وناقصا فلا يقال لمنافاته التوفية . والخطاب في ( فلا تك ) متوجه إلى من داخله الشك لا إلى الرسول ، والمعنى : والله أعلم : قل يا محمد لكل من شك لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ، فإن الله لم يأمرهم بذلك ، وإنما اتبعوا في ذلك آباءهم تقليدا لهم وإعراضا عن حجج العقول .

( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ) لما بين تعالى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد ونبوة الرسول والقرآن الذي أتى به ، بين أن الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاجرة مع أنبيائهم ، فليس ذلك ببدع ممن عاصر الرسول ، وضرب لذلك مثلا وهو : إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها .

والكتاب هنا : التوراة ، فقبله بعض وأنكره بعض ، كما اختلف هؤلاء في القرآن . والظاهر عود الضمير فيه على الكتاب لقربه ، ويجوز أن يعود على موسى عليه السلام .

ويلزم من الاختلاف في أحدهما الاختلاف في الآخر . وجاز أن تكون ( في ) بمعنى ( على ) ، أي : فاختلف عليه ، وكان بنو إسرائيل أشد تعنتا على موسى وأكثر اختلافا عليه .

وقد تقدم شرح ( ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ) والظاهر عود الضمير في بينهم على قوم موسى عليه السلام ، إذ هم المختلفون فيه ، أو في الكتاب . وقيل : يعود على المختلفين في الرسول من معاصريه .

قال ابن عطية : وأن يعمهم اللفظ أحسن عندي ، وهذه الجملة من جملة تسليته أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية