الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 143 ] فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فلما جاء أمرنا " فيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أمر الله الملائكة بعذابهم . والثاني : أن الأمر بمعنى العذاب . والثالث : أنه بمعنى القضاء بعذابهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " جعلنا عاليها سافلها " الكناية تعود إلى المؤتفكات ، وهي قرى قوم لوط ، وقد ذكرناها في (براءة :70) ، ونحن نشير إلى قصة هلاكهم هاهنا . قال ابن عباس : أمر جبريل لوطا بالخروج ، وقال : اخرج وأخرج غنمك وبقرك ، فقال : كيف لي بذلك وقد أغلقت أبواب المدينة ، فبسط جناحه ، وحمله وبنتيه ومالهم شيء ، فأخرجهم من المدينة ، وسأل جبريل ربه : فقال : يا رب ولني هلاك هؤلاء القوم ، فأوحى الله إليه أن تول هلاكهم ; فلما أن بدا الصبح ، غدا عليهم جبريل فاحتملها على جناحه ، ثم صعد بها حتى خرج الطير في الهواء لا يدري أين يذهب ، ثم كفأها عليهم ، وسمعوا وجبة شديدة ، فالتفتت امرأة لوط ، فرماها جبريل بحجر فقتلها ، ثم صعد حتى أشرف على الأرض ، فجعل يتبعهم مسافرهم ورعاتهم ومن تحول عن القرية ، فرماهم بالحجارة حتى قتلهم . وقال السدي : اقتلع جبريل الأرض من سبع أرضين ، فاحتملها حتى بلغ بها إلى أهل السماء الدنيا ، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، ثم قلبها . وقال غيره : كانت خمس قرى ، أعظمها سدوم ، وكان القوم أربعة آلاف ألف . وقيل : كان في كل قرية مائة ألف مقاتل ، فلما رفعها إلى السماء ، لم ينكسر لهم إناء ولم [ ص: 144 ] يسقط حتى قلبها عليهم . وقيل : نجا من الخمس واحدة لم تكن تعمل مثل عملهم . وانفرد سعيد بن جبير ، فقال : إن جبريل وميكائيل توليا قلبها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وأمطرنا عليها " في هاء الكناية قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنها ترجع إلى القرى . والثاني إلى الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي السجل سبعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنها بالفارسية سنك وكل ، السنك : الحجر ، والكل : الطين ، هذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير . وقال مجاهد : أولها حجر ، وآخرها طين . وقال الضحاك : يعني الآجر . قال ابن قتيبة : من ذهب إلى هذا القول ، اعتبره بقوله : حجارة من طين [الذاريات :33] يعني الآجر . وحكى الفراء أنه طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض ، ومنه نزلت الحجارة ، قاله عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أن السجيل : اسم السماء الدنيا ، فالمعنى : حجارة من السماء الدنيا ، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : أنه الشديد من الحجارة الصلب ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لابن مقبل :


                                                                                                                                                                                                                                      [ورجلة يضربون البيض عن عرض] ضربا تواصت به الأبطال سجينا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 145 ] ورد هذا القول ابن قتيبة ، فقال : هذا بالنون ، وذاك باللام ، وإنما هو في هذا البيت فعيل من سجنت ، أي : حبست ، كأنه يثبت صاحبه .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس : أن قوله : " من سجيل " كقولك : من سجل ، أي : مما كتب لهم أن يعذبوا به ، وهذا اختيار الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      والسادس : أنه من أسجلته ، أي : أرسلته ، فكأنها مرسلة عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والسابع : أنه من أسجلت : إذا أعطيت ، حكى القولين الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : " منضود " ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : يتبع بعضه بعضا ، قاله ابن عباس . والثاني : مصفوف ، قاله عكرمة ، وقتادة . والثالث : نضد بعضه على بعض ، لأنه طين جمع فجعل حجارة ، قاله الربيع بن أنس .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " مسومة " قال الزجاج : أي :معلمة ، أخذ من السومة ، وهي العلامة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي علامتها ستة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : بياض في حمرة ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنها كانت مختومة ، فالحجر أبيض وفيه نقطة سوداء ، أو أسود وفيه نقطة بيضاء ، رواه العوفي عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنها المخططة بالسواد والحمرة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : عليها نضح من حمرة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع ، قاله عكرمة ، وقتادة . [ ص: 146 ] والخامس : أنها كانت معلمة بعلامة يعرف بها أنها ليست من حجارة الدنيا ، قاله ابن جريج .

                                                                                                                                                                                                                                      والسادس : أنه كان على كل حجر منها اسم صاحبه ، قاله الربيع . وحكي عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال : كانت مثل رأس الإبل ، ومثل مبارك الإبل ، ومثل قبضة الرجل .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله تعالى : " عند ربك " أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أن المعنى : جاءت من عند ربك ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : عند ربك معدة ، قاله أبو بكر الهزلي .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أن المعنى : هذا التسويم لزم هذه الحجارة عند الله إيذانا بنفاذ قدرته وشدة عذابه ، قاله ابن الأنباري .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : أن معنى قوله : " عند ربك " : في خزائنه التي لا يتصرف في شيء منها إلا بإذنه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وما هي من الظالمين ببعيد " في المراد بالظالمين هاهنا ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أن المراد بالظالمين هاهنا : كفار قريش ، خوفهم الله بها ، قاله الأكثرون .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه عام في كل ظالم ; قال قتادة : والله ما أجار الله منها ظالما بعد قوم لوط ، فاتقوا الله وكونوا منه على حذر .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنهم قوم لوط ، فالمعنى : وما هي من الظالمين ، أي : من قوم لوط ببعيد ، والمعنى : لم تكن لتخطئهم ، قاله الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية