الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال

                                                                                                                                                                                                                                      وأنذر الناس خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إعلامه أن تأخيرهم لماذا؟ وأمر له بإنذارهم، وتخويفهم منه، والمراد بالناس: الكفار، المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب، والعدول إليه من الإضمار للإشعار بأن المراد بالإنذار: هو الزجر عما هم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للإزعاج، والإيذاء. فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم. أو الناس جميعا، فإن الإنذار عام للفريقين كقوله تعالى: إنما تنذر من اتبع الذكر والإتيان يعمهما من حيث كونهما في الموقف، وإن كان لحوقه بالكفار خاصة، أي: أنذرهم وخوفهم. يوم يأتيهم العذاب المعهود: وهو اليوم الذي وصف بما لا يوصف من الأوصاف الهائلة. أعني: يوم القيامة. وقيل: هو يوم موتهم معذبين بالسكرات، ولقاء الملائكة بلا بشرى، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، ويأباه القصر السابق، فيقول الذين ظلموا أي: فيقولون. والعدول عنه إلى ما عليه النظم الكريم للتسجيل عليهم بالظلم، وللإشعار بأن ما لقوه من الشدة، إنما هو لظلمهم، وإيثاره على صيغة الفاعل حسبما ذكر أولا للإيذان بأن الظلم في الجملة كاف في الإفضاء إلى ما ذكر من الأهوال من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبئ عنه صيغة الفاعل، وعلى تقدير كون المراد بالناس من يعم المسلمين أيضا، فالمعنى: الذين ظلموا منهم وهم: الكفار. أو يقول كل من ظلم بالشرك، والتكذيب من المنذرين، وغيرهم من الأمم الخالية، فإن إتيان العذاب يعمهم كما يشعر بذلك وعدهم باتباع الرسل. ربنا أخرنا ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أجل قريب إلى أمد وحد من الزمان قريب نجب دعوتك أي: الدعوة إليك. أي: وإلى توحيدك، أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل، ففيه إيماء إلى أنهم صدقوهم في أنهم مرسلون من عند الله تعالى ونتبع الرسل فيما جاءونا به، أي: نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة الدعوة، واتباع الرسل، والجمع، إما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد، وكون عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا لهم جميعا، وإما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعا، والمقصود: بيان وعد كل أمة باتباع رسولها. أولم تكونوا أقسمتم من قبل على إضمار القول معطوفا على "فيقول" أي: فيقال لهم توبيخا، وتبكيتا. ألم تؤخروا في الدنيا، ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطرا، وأشرا وجهلا، وسفها. ما لكم من زوال مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية، أو بألسنة الحال حيث بنيتم مشيدا [ ص: 57 ] وأملتم بعيدا، ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة، وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير، وبعد مداه. أو ما لكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء، كقوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت وصيغة الخطاب في جواب القسم لمراعاة حال الخطاب في أقسمتم، كما في قوله: حلف بالله ليخرجن، وهو أدخل في التوبيخ من أن يقال: ما لنا مراعاة لحال المقسم، ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها، فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل فيجيبهم الله تعالى: ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير ثم يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون فيجيبهم الله تعالى: فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا الآية. ثم يقولون: ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل فيجيبهم الله تعالى: أولم تكونوا أقسمتم الآية. ثم يقولون: ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فيجيبهم الله تعالى: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير فيقولون: ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ، فيجيبهم الله تعالى: اخسئوا فيها ولا تكلمون ، فلا يتكلمون بعدها أبدا، إن هو إلا زفير وشهيق. وعند ذلك انقطع رجاؤهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض، وأطبقت عليهم جهنم. اللهم إنا بك نعوذ، وبكنفك نلوذ، عز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية