الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار

                                                                                                                                                                                                                                      وآتاكم من كل ما سألتموه أي: أعطاكم بعض جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة، والمصلحة. كقوله سبحانه: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، ونيط به انتظام أحوالكم على الوجه المقدر، فكأنكم سألتموه، أو كل ما طلبتموه بلسان الاستعداد، أو كل ما سألتموه على أن من للبيان، وكلمة كل للتكثير، كقولك: فلان يعلم كل شيء، وأتاه كل الناس، وعليه قوله عز وجل: فتحنا عليهم أبواب كل شيء وقيل: الأصل وآتاكم من كل ما سألتموه، وما لم تسألوه. فحذف الثاني لدلالة ما أبقي على ما ألقي. وقرئ: بتنوين كل على أن "ما" نافية، ومحل ما سألتموه النصب على الحالية، أي: آتاكم من كل غير سائليه، وإن تعدوا نعمة الله [ ص: 49 ] التي أنعم بها عليكم لا تحصوها لا تطيقوا بحصرها، ولو إجمالا، فإنها غير متناهية، وأصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد، وضع حصاة ليحفظ بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلا عن بلوغ غايتها كيف لا؟ وما من فرد من أفراد الناس، وإن كان في أقصى مراتب الفقر والإفلاس ممنوا بأصناف العنايا، مبتلى بأنواع الرزايا، فهو بحيث لو تأملته ألفيته متقلبا في نعم لا تحد، ومنن لا تحصى ولا تعد. كأنه قد أعطي كل ساعة وآن من النعماء ما حواه حيطة الإمكان، وإن كنت في ريب من ذلك فقدر أنه ملك ملك أقطار العالم، ودانت له كافة الأمم، وأذعنت لطاعته السراة، وخضعت لهيبته رقاب العتاة، وفاز بكل مرام، ونال كل منال، وحاز جميع ما في الدنيا من أصناف الأموال من غير ند يزاحمه، ولا شريك يساهمه، بل قدر أن جميع ما فيها من حجر ومدر يواقيت غالية، ونفائس درر، ثم قدر أنه قد وقع من فقد مشروب، أو مطعوم، في حالة بلغت نفسه الحلقوم. فهل يشتري، وهو في تلك الحال بجميع ماله من الملك، والمال لقمة تنجيه عن رواه، أو شربة ترويه من ظماه، أم يختار الهلاك فتذهب الأموال، والأملاك بغير بدل يبقى عليه، ولا نفع يعود إليه؟ كلا بل يبذل لذلك كل ما تحويه اليدان كائنا ما كان، وليس في صفقته شائبة الخسران، فإذن تلك اللقمة والشربة خير مما في الدنيا بألف رتبة مع أنهما في طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالي والأيام. أو قدر أنه قد احتبس عليه النفس، فلا دخل منه ما خرج، ولا خرج منه ما ولج. والحين قد حان، وأتاه الموت من كل مكان، إما يعطي ذلك كله بمقابلة نفس واحد، بل يعطيه وهو لرأيه حامد، فإذن هو خير من أموال الدنيا بحملتها، ومطالبها برمتها، مع أنه أبيح له كل آن من آنات الليالي والأيام، حال اليقظة والمنام هذا من الظهور، والجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد من العقلاء، وإن رمت العثور على حقيقة الحق، والوقوف على كل ما جل من السر ودق، فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود، وما يتبعه من الكمالات اللائقة، والملكات الرائقة بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار، ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار، ومهاوي الهلاك والدمار، لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي، وكل آن يمر وينقضي من أنواع الفيوض المتعلقة بذاته، ووجوده، وسائر صفاته الروحانية، والنفسانية، والجسمانية، ما لا يحيط به نطاق التعبير، ويعلمه إلا العليم الخبير، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء، وإنما ذلك من جناب المبدئ الأول عز وجل ، فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارئ، لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي، وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه، وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود، لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك، إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود ، فارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى، أعني بقاءها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده. نعم غير متناهية حقيقة [ ص: 50 ] لا ادعاء، وكذا الحال في وجودات علله، وشرائطه القريبة والبعيدة، ابتداء وبقاء، وكذا في كمالاته التابعة لوجوده فاتضح أنه يفيض عليه كل آن نعم لا تتناهى من وجوه شتى، فسبحانك سبحانك ما أعظم سلطانك، لا تلاحظك العيون بأنظارها، ولا تطالعك العقول بأفكارها، شأنك لا يضاهى، وإحسانك لا يتناهى، ونحن في معرفتك حائرون، وفي إقامة مراسم شكرك قاصرون نسألك الهداية إلى مناهج معرفتك، والتوفيق لأداء حقوق نعمتك، لا نحصي ثناء عليك لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. إن الإنسان لظلوم يظلم النعمة بإغفال شكرها، أو بوضعه إياها في غير موضعها، أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان كفار شديد الكفران. وقيل: ظلوم في الشدة يشكو، ويجزع كفار في النعمة، يجمع ويمنع. واللام في الإنسان للجنس، ومصداق الحكم بالظلم والكفران بعض من وجدا فيه من أفراده، ويدخل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله كفرا... إلخ. دخولا أوليا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية