الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 112 ] وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الذين أشركوا أي: أهل مكة . وهو بيان لفن آخر من كفرهم، والعدول عن الإضمار إلى الموصول لتقريعهم بما في حيز الصلة، وذمهم بذلك من أول الأمر. لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء أي: لو شاء عدم عبادتنا لشيء غيره، كما تقول: لما عبدنا ذلك نحن ولا آباؤنا الذي نقتدي بهم في ديننا ولا حرمنا من دونه من شيء من السوائب والبحائر وغيرها، وإنما قالوا ذلك تكذيبا للرسول صلى الله عليه وسلم، وطعنا في الرسالة رأسا متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب، وما لم يشأ يمتنع. فلو أنه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئا، ولا نحرم مما حرمنا شيئا، كما يقول الرسل، وينقلونه من جهة الله عز وجل لكان الأمر كما شاء من التوحيد، ونفي الإشراك، وما يتبعهما. وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك، وإنما يقوله الرسل من تلقاء أنفسهم ، فأجيب عنه بقوله عز وجل: كذلك أي: مثل ذلك الفعل الشنيع فعل الذين من قبلهم من الأمم، أي: أشركوا بالله، وحرموا حله، وردوا رسله، وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ، وهدوهم إلى الحق. فهل على الرسل الذين يبلغون رسالات الله، وعزائم أمره ونهيه إلا البلاغ المبين أي: ليست وظيفتهم إلا تبليغ الرسالة تبليغا واضحا، أو موضحا. وإبانة طريق الحق، وإظهار أحكام الوحي الذي من جملتها تحتم تعلق مشيئة الله تعالى باهتداء من صرف قدرته، واختباره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأما إلجاؤهم إلى ذلك، وتنفيذ قولهم عليهم شاءوا، أو أبوا ، كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم، ولا من الحكمة التي عليها يدور أمر التكليف في شيء، حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقيقة الرسل، أو على عدم تعلق مشيئته تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من أفعال العباد لا بد في تعلق مشيئته تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من أفعال العباد لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية له، وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله، وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين فـ "الفاء" للتعليل، كأنه قيل: كذلك فعل أسلافهم. وذلك باطل، فإن الرسل ليس شأنهم إلا تبليغ أوامر الله تعالى، ونواهيه لا تحقيق مضمونهما، وإجراء موجبهما على الناس قسرا وإلجاء، وإيراد كلمة على للإيذان بأنهم في ذلك مأمورون، أو بأن ما يبلغونه حق للناس عليهم إيفاؤه، وبهذا ظهر أن حمل قولهم: لو شاء الله ... إلخ. على الاستهزاء لا يلائم الجواب، والله تعالى أعلم بالصواب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية