الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب

                                                                                                                                                                                                رجل مؤمن وقرئ: (رجل) بسكون الجيم، كما يقال: عضد في عضد، وكان قبطيا ابن عم لفرعون، آمن بموسى سرا وقيل: كان إسرائيليا و من آل فرعون صفة لرجل. أو صلة ليكتم، أي: يكتم إيمانه من آل فرعون، واسمه سمعان أو حبيب، وقيل: حزبيل أو حزبيل، والظاهر أنه كان من آل فرعون فإن المؤمنين من بني إسرائيل لم يقلوا ولم يعزوا. والدليل عليه قول فرعون: أبناء الذين آمنوا معه [غافر: 25]. وقول المؤمن: فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا [غافر: 29] دليل ظاهر على أنه ينتصح لقومه. أن يقول لأن يقول، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله: ربي الله مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله ببينة واحدة، ولكن بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم، ولك أن تقدر مضافا محذوفا، أي: وقت [ ص: 343 ] أن تقول. والمعنى: أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره؟ وقوله: "بالبينات" يريد: بالبينات العظيمة التي عهدتموها وشهدتموها، ثم أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا، وإن يك كاذبا فعليه كذبه أي: يعود عليه كذبه ولا يتخطاه ضرره، وإن يك صادقا يصبكم بعض ما يعدكم إن تعرضتم له. فإن قلت: لم قال: بعض الذي يعدكم وهو نبي صادق، لا بد لما بعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟ قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومنا كريه إلى أن يلاوصهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الأنصاف في القول، ويأتيهم من وجهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه، فقال: وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه; ليسمعوا منه ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه يصبكم بعض الذي يعدكم ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا، فضلا أن يتعصب له، أو يرمي بالحصا من ورائه، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل، وكذلك قوله: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب . فإن قلت: فعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد [من الكامل]:


                                                                                                                                                                                                تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها



                                                                                                                                                                                                [ ص: 344 ] قلت: إن صحت الرواية عنه، فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقي: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له: إن الله لا يهدي من هو مسرف يحتمل أن يكون مسرفا كذابا خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر، فيتخلصون منه، وأنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوة، ولما عضده بالبينات. وقيل: ما تولى أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد من ذلك، طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت، فلقوه حين فرغ، فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا له: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا، فقال: أنا ذاك، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فالتزمه من ورائه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم، رافعا صوته بذلك، وعيناه تسفحان، حتى أرسلوه. وعن جعفر الصادق : أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرا، وأبو بكر قاله ظاهرا.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية