الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قاعدة في الإفراد والجمع :

من ذلك ( السماء والأرض ) حيث وقع في القرآن ذكر الأرض فإنها مفردة ، ولم تجمع - بخلاف السماوات - لثقل جمعها وهو أرضون ، ولهذا لما أريد ذكر جميع الأرضين قال : ومن الأرض مثلهن [ الطلاق : 12 ] .

وأما السماء : فذكرت تارة بصيغة الجمع ، وتارة بصيغة الإفراد ، لنكت تليق بذلك المحل ، كما أوضحته في " أسرار التنزيل " والحاصل : أنه حيث أريد العدد أتي بصيغة الجمع الدالة على سعة العظمة والكثرة ، نحو : سبح لله ما في السماوات [ الصف : 1 ] أي : جميع سكانها على كثرتهم . يسبح لله ما في السماوات [ الجمعة : 1 ] أي : كل واحد على اختلاف عددها . قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ النمل : 65 ] إذ المراد نفي [ ص: 574 ] علم الغيب عن كل من هو في واحدة من السماوات .

وحيث أريد الجهة أتي بصيغة الإفراد ، نحو : وفي السماء رزقكم [ الذاريات : 22 ] أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض [ الملك : 16 ] أي : من فوقكم .

ومن ذلك ( الريح ) ذكرت مجموعة ومفردة ، فحيث ذكرت في سياق الرحمة جمعت ، أو في سياق العذاب أفردت .

أخرج ابن أبي حاتم وغيره ، عن أبي بن كعب ، قال : كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة ، وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب .

ولهذا ورد في الحديث : اللهم اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا .

وذكر في حكمة ذلك : أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهبات والمنافع ، وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها ، فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات ; فكانت في الرحمة رياحا . وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد ولا معارض لها ولا دافع .

وقد خرج عن هذه القاعدة قوله تعالى : في سورة يونس : وجرين بهم بريح طيبة [ يونس : 22 ] وذلك لوجهين :

لفظي : وهو المقابلة ، في قوله : جاءتها ريح عاصف ورب شيء يجوز في المقابلة ولا يجوز استقلالا ، نحو : ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] .

ومعنوي : وهو أن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها ، فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد ، فإن اختلفت عليها الرياح كان سبب الهلاك ، والمطلوب هنا ريح واحدة ، ولهذا أكد هذا المعنى بوصفها بالطيب . وعلى ذلك أيضا جرى قوله : إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد [ الشورى : 33 ] .

وقال ابن المنير : إنه على القاعدة ; لأن سكون الريح عذاب وشدة على أصحاب السفن .

ومن ذلك إفراد ( النور ) وجمع ( الظلمات ) وإفراد ( سبيل الحق ) وجمع ( سبل [ ص: 575 ] الباطل ) في قوله تعالى : ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] ; لأن طريق الحق واحدة ، وطريق الباطل متشعبة متعددة . والظلمات بمنزلة طرق الباطل ، والنور بمنزلة طريق الحق ، بل هما هما .

ولهذا وحد ولي المؤمنين ، وجمع أولياء الكفار - لتعددهم - في قوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات [ البقرة : 257 ] .

ومن ذلك إفراد ( النار ) حيث وقعت ، و ( الجنة ) وقعت مجموعة ومفردة ; لأن الجنان مختلفة الأنواع ، فحسن جمعها ، والنار مادة واحدة . ولأن الجنة رحمة والنار عذاب ، فناسب جمع الأولى وإفراد الثانية ، على حد الرياح والريح .

ومن ذلك إفراد ( السمع ) وجمع ( البصر ) ; لأن السمع غلب عليه المصدرية فأفرد ، بخلاف البصر : فإنه اشتهر في الجارحة ; ولأن متعلق السمع الأصوات وهي حقيقة واحدة ، ومتعلق البصر الألوان والأكوان وهي حقائق مختلفة ، فأشار في كل منهما إلى متعلقه .

ومن ذلك إفراد ( الصديق ) وجمع ( الشافعين ) في قوله تعالى : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم [ الشعراء : 100 - 101 ] . وحكمته كثرة الشفعاء في العادة ، وقلة الصديق . قال الزمخشري : ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم ، نهضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة ، وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة ، وأما الصديق : فأعز من بيض الأنوق .

ومن ذلك : ( الألباب ) لم يقع إلا مجموعا ; لأن مفرده ثقيل لفظا .

ومن ذلك مجيء ( المشرق والمغرب ) بالإفراد والتثنية والجمع ، فحيث أفردا فاعتبارا للجهة ، وحيث ثنيا فاعتبارا لمشرق الصيف والشتاء ومغربهما ، وحيث جمعا فاعتبارا لتعدد المطالع في كل فصل من فصلي السنة .

وأما وجه اختصاص كل موضوع بما وقع فيه : ففي سورة الرحمة وقع بالتثنية ; لأن سياق السورة سياق المزدوجين ، فإنه سبحانه وتعالى ذكر أولا نوعي الإيجاد وهما الخلق والتعليم . ثم ذكر سراجي العالم : الشمس والقمر . ثم نوعي النبات : ما كان على ساق وما لا ساق له ، وهما النجم والشجر ، ثم نوعي السماء والأرض . ثم نوعي العدل والظلم . ثم نوعي [ ص: 576 ] الخارج من الأرض وهما الحبوب والرياحين . ثم نوعي المكلفين وهما : الإنس والجان . ثم نوعي المشرق والمغرب ، ثم نوعي البحر الملح والعذب ; فلهذا حسن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة ، وجمعا في قوله فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون [ المعارج : 40 ] ، وفي سورة الصافات للدلالة على سعة القدرة والعظمة .

فائدة : حيث ورد ( البار ) مجموعا في صفة الآدميين قيل : ( أبرار ) . وفي صفة الملائكة قيل : ( بررة ) . ذكره الراغب ، ووجهه : بأن الثاني أبلغ ; لأنه جمع بار ، وهو أبلغ من ( بر ) مفرد الأول .

وحيث ورد ( الأخ ) مجموعا في النسب قيل : ( إخوة ) . وفي الصداقة قيل : ( إخوان ) قاله ابن فارس وغيره . وأورد عليه في الصداقة : إنما المؤمنون إخوة [ الحجرات : 10 ] . وفي النسب : أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن [ النور : 31 ] .

فائدة : ألف أبو الحسن الأخفش كتابا في الإفراد والجمع ، ذكر فيه جمع ما وقع في القرآن مفردا ، ومفرد ما وقع جمعا ، وأكثره من الواضحات ، وهذه أمثلة من خفي ذلك :

( المن ) : لا واحد له . ( السلوى ) : لم يسمع له بواحد . ( النصارى ) قيل : جمع نصراني وقيل : جمع نصير كنديم وقبيل . ( العوان ) جمعه عون . ( الهدى ) لا واحد له . ( الإعصار ) جمعه أعاصير . ( الأنصار ) واحده نصير ، كشريف وأشراف . ( الأزلام ) وأحدها زلم ، ويقال : زلم بالضم . ( مدرارا ) جمعه مدارير . ( أساطير : ) : واحده أسطورة ، وقيل : أسطار ، جمع سطر . ( الصور ) : جمع صورة ، وقيل : واحد الأصوار . ( فرادى ) : جمع أفراد ، جمع فرد .

( قنوان : ) : جمع قنو ، و ( صنوان : ) : جمع صنو ، وليس في اللغة جمع ومثنى بصيغة واحدة إلا هذان ، ولفظ ثالث لم يقع في القرآن ، قاله ابن خالويه في كتاب ( ليس ) .

( الحوايا ) : جمع حاوية ، وقيل : حاوياء . ( نشرا : ) : جمع نشور . عضين [ الحجر : 91 ] و عزين [ المعارج : 37 ] . جمع عضة وعزة . المثاني [ الحجر : 87 ] جمع مثنى . ( تارة ) [ الإسراء : 69 ] جمعها تارات وتير . أيقاظا [ الكهف : 18 ] جمع يقظ ( الأرائك ) جمع أريكة ( سري ) جمعه سريان ، كخصي وخصيان ( آناء الليل ) جمع إنا - بالقصر - كمعى ، وقيل : إني كقرد ، وقيل : إنوة كفرقة . ( الصياصي ) جمع صيصية . ( منسأة ) جمعها مناسئ . الحرور [ فاطر : 21 ] جمعه حرور ، بالضم . وغرابيب [ فاطر : 27 ] جمع غربيب ، أتراب [ ص : 52 ] جمع ترب ( الآلاء ) جمع إلى كمعى ، وقيل : ألى كقفى .

[ ص: 577 ] وقيل : إلي كقرد ، وقيل : ألو . التراقي [ القيامة : 26 ] جمع ترقوة ، بفتح أوله ( الأمشاج ) جمع مشيج . ألفافا [ النبإ : 16 ] جمع لف ، بالكسر . العشار [ التكوير : 4 ] جمع عشر . بالخنس [ التكوير : 15 ] جمع خانسة ، وكذا الكنس [ التكوير : 16 ] . الزبانية [ العلق : 18 ] جمع زبنية ، وقيل : زابن ، وقيل : زباني أشتاتا [ النور : 61 ] جمع شت وشتيت . أبابيل [ الفيل : 3 ] لا واحد له ، وقيل : واحده إبول مثل عجول ، وقيل : إبيل مثل إكليل .

فائدة : ليس في القرآن من الألفاظ المعدولة إلا ألفاظ العدد : ( مثنى وثلاث ورباع ) [ النساء : 3 ] . [ فاطر : 1 ] ومن غيرها ( طوى ) [ طه : 12 ] فيما ذكره الأخفش في الكتاب المذكور ، ومن الصفات : أخر في قوله تعالى : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] .

قال الراغب : وغيره هي معدولة عن تقدير ما فيه الألف واللام ، وليس له نظير في كلامهم ، فإن ( أفعل ) إما أن يذكر معه ( من ) لفظا أو تقديرا ، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث وتحذف منه ( من ) فتدخل عليه الألف واللام ، ويثنى ويجمع وهذه اللفظة من بين أخواتها جوز فيها ذلك من غير الألف واللام .

وقال الكرماني في الآية المذكورة : لا يمتنع كونها معدولة عن الألف واللام مع كونها وصفا لنكرة ; لأن ذلك مقدر من وجه وغير مقدر من وجه .

قاعدة : مقابلة الجمع بالجمع تارة تقتضي مقابلة كل فرد من هذا بكل فرد من هذا ، كقوله : واستغشوا ثيابهم [ نوح : 7 ] أي : استغشى كل منهم ثوبه .

حرمت عليكم أمهاتكم [ النساء : 23 ] أي : على كل من المخاطبين أمه .

يوصيكم الله في أولادكم [ النساء : 11 ] أي : كلا في أولاده .

والوالدات يرضعن أولادهن [ البقرة : 233 ] أي : كل واحدة ترضع ولدها .

وتارة يقتضي ثبوت الجمع لكل فرد من أفراد المحكوم عليه ، نحو : فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 4 ] وجعل منه الشيخ عز الدين : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات [ البقرة : 25 ] .

وتارة يحتمل الأمرين ، فيحتاج إلى دليل يعين أحدهما :

وأما مقابلة الجمع بالمفرد : فالغالب ألا يقتضي تعميم المفرد ، وقد يقتضيه ، كما في [ ص: 578 ] قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ البقرة : 184 ] المعنى : على كل واحد لكل يوم طعام مسكين ، والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 4 ] ; لأن على كل واحد منهم ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية