الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        84 - الحديث الثالث : عن عائشة رضي الله عنها قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة ب { الحمد لله رب العالمين } وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك ، وكان إذا رفع رأسه من الركوع : لم يسجد ، حتى يستوي قائما ، وكان إذا رفع رأسه من السجدة : لم يسجد ، حتى يستوي قاعدا ، وكان يقول في كل ركعتين التحية ، وكان يفرش رجله اليسرى ، وينصب رجله اليمنى ، وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع ، وكان يختم الصلاة بالتسليم } .

                                        التالي السابق


                                        . هذا الحديث سها المصنف في إيراده في هذا الكتاب . فإنه مما انفرد به مسلم عن البخاري . فرواه من حديث الحسين المعلم عن بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها . وشرط الكتاب : تخريج الشيخين للحديث .

                                        قولها " كان يستفتح الصلاة بالتكبير " قد تقدم الكلام على لفظة " كان " فإنها قد تستعمل في مجرد وقوع الفعل . وهذا الحديث - مع حديث أبي هريرة - [ ص: 234 ] قد يدل على ذلك . فإنها قد استعملت في أحدهما على غير ما استعملت في الآخر . فإن حديث أبي هريرة : إن اقتضى المداومة أو الأكثرية على السكوت وذلك الذكر ، وهذا الحديث يقتضي المداومة - أو الأكثرية - لافتتاح الصلاة بعد التكبير ب { الحمد لله رب العالمين } ، تعارضا .

                                        وهذا البحث مبني على أن يكون لفظ " القراءة " مجرورا . فإن كانت لفظة " كان " لا تدل إلا على الكثرة . فلا تعارض . إذ قد يكثران جميعا . وهذه الأفعال التي تذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قد استدل الفقهاء بكثير منها على الوجوب . لا لأن الفعل يدل على الوجوب ، بل ; لأنهم يرون أن قوله تعالى { أقيموا الصلاة } خطاب مجمل ، مبين بالفعل ، والفعل المبين للمجمل المأمور به : يدخل تحت الأمر . فيدل مجموع ذلك على الوجوب . وإذا سلكت هذه الطريقة وجدت أفعالا غير واجبة ، فلا بد أن يحال ذلك على دليل آخر دل على عدم الوجوب .

                                        وفي هذا الاستدلال بحث . وهو أن يقال : الخطاب المجمل يتبين بأول الأفعال وقوعا . فإذا تبين بذلك الفعل لم يكن ما وقع بعده بيانا ، لوقوع البيان بالأول . فيبقى فعلا مجردا ، لا يدل على الوجوب . اللهم إلا أن يدل دليل على وقوع ذلك الفعل المستدل به بيانا . فيتوقف الاستدلال بهذه الطريقة على وجود ذلك الدليل ، بل قد يقوم الدليل على خلافه ، كرواية من رأى فعلا للنبي صلى الله عليه وسلم . وسبقت له صلى الله عليه وسلم مدة يقيم الصلاة فيها . وكان هذا الراوي الرائي من أصاغر الصحابة ، الذين حصل تمييزهم ورؤيتهم بعد إقامة الصلاة مدة . فهذا مقطوع بتأخره . وكذلك من أسلم بعد مدة إذا أخبر برؤيته للفعل . وهذا ظاهر في التأخير . وهذا تحقيق بالغ .

                                        وقد يجاب عنه بأمر جدلي لا يقوم مقامه . وهو أن يقال : دل الحديث المعين على وقوع هذا الفعل . والأصل عدم غيره وقوعا ، بدلالة الأصل . فينبغي أن يكون وقوعه بيانا . وهذا قد يقوى إذا وجدنا فعلا ليس فيه شيء مما قام الدليل على عدم وجوبه . فأما إذا وجد فيه شيء من ذلك ، فإذا جعلناه مبينا بدلالة الأصل على عدم غيره ، ودل الدليل على عدم وجوبه : لزم النسخ لذلك الوجوب الذي ثبت أولا فيه . [ ص: 235 ] ولا شك أن مخالفة الأصل أقرب من التزام النسخ .

                                        وقولها " وكان يفتتح الصلاة بالتكبير " يدل على أمور :

                                        أحدها : أن الصلاة تفتتح بالتحريم ، أعني ما هو أعم من التكبير ، بمعنى أنه لا يكتفى بالنية في الدخول فيها . فإن التكبير تحريم مخصوص . والدال على وجود الأخص دال على وجود الأعم . وأعني بالأعم هاهنا : هو المطلق . ونقل بعض المتقدمين خلافه . وربما تأوله . بعضهم على مالك . والمعروف خلافه عنه . وعن غيره .

                                        الثاني : أن التحريم يكون بالتكبير خصوصا . وأبو حنيفة يخالف فيه ويكتفي بمجرد التعظيم . كقوله " الله أجل ، أو أعظم " والاستدلال على الوجوب بهذا الفعل ، إما على الطريقة السابقة من كونه بيانا للمجمل . وفيه ما تقدم . وإما بأن يضم إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقد فعلوا ذلك في مواضع كثيرة . واستدلوا على الوجوب ، مع هذا القول . أعني قوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " وهذا إذا أخذ مفردا عن ذكر سببه وسياقه : أشعر بأنه خطاب للأمة بأن يصلوا كما صلى صلى الله عليه وسلم فيقوى الاستدلال بهذه الطريقة على كل فعل ثبت أنه فعله في الصلاة . وإنما هذا الكلام قطعة من حديث مالك بن الحويرث قال { أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون - فأقمنا عنده عشرين ليلة . وكان رسول الله رحيما رفيقا . فظن أنا قد اشتقنا أهلنا . فسألنا عمن تركنا من أهلنا ؟ فأخبرناه . فقال : ارجعوا إلى أهليكم ، فأقيموا فيهم وعلموهم ، ومروهم . فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم . ثم ليؤمكم أكبركم زاد البخاري وصلوا كما رأيتموني أصلي } فهذا خطاب لمالك وأصحابه بأن يوقعوا الصلاة على ذلك الوجه الذي رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليه ويشاركهم في هذا الخطاب كل الأمة في أن يوقعوا الصلاة على ذلك الوجه . فما ثبت استمرار فعل النبي صلى الله عليه وسلم عليه دائما : دخل تحت الأمر ، وكان واجبا . وبعض ذلك مقطوع به ، أي مقطوع باستمرار فعله له . وما لم يدل دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها - لا يجزم بتناول الأمر له .

                                        وهذا أيضا يقال فيه من الجدل ما أشرنا إليه . وقولها " والقراءة ب { الحمد لله رب العالمين } تمسك به مالك وأصحابه في [ ص: 236 ] ترك الذكر بين التكبير والقراءة . فإنه لو تخلل ذكر بينهما لم يكن الاستفتاح بالقراءة ب { الحمد لله رب العالمين } وهذا على أن تكون " القراءة " مجرورة لا منصوبة واستدل به أصحاب مالك أيضا على ترك التسمية في ابتداء الفاتحة .

                                        وتأوله غيرهم على أن المراد : يفتتح بسورة الفاتحة قبل غيرها من السور . وليس بقوي ; لأنه إن أجرى مجرى الحكاية فذلك يقتضي البداءة بهذا اللفظ بعينه . فلا يكون قبله غيره ; لأن ذلك الغير يكون هو المفتتح به . وإن جعل اسما فسورة الفاتحة لا تسمى بهذا المجموع . أعني " الحمد لله رب العالمين " بل تسمى بسورة الحمد فلو كان لفظ الرواية " كان يفتتح بالحمد " لقوي هذا المعنى . فإنه يدل حينئذ على الافتتاح بالسورة التي البسملة بعضها عند هذا المتأول لهذا الحديث .

                                        وقولها " وكان إذا ركع لم يشخص رأسه " أي لم يرفعه . ومادة اللفظ تدل على الارتفاع . ومنه : أشخص بصره ، إذا رفعه نحو جهة العلو . ومنه الشخص لارتفاعه للأبصار ومنه : شخص المسافر : إذا خرج من منزله إلى غيره . ومنه ما جاء في بعض الآثار " فشخص بي " أي أتاني ما يقلقني . كأنه رفع من الأرض لقلقه .

                                        وقولها " ولم يصوبه " أي لم ينكسه . ومنه الصيب : المطر . صاب يصوب إذا نزل .

                                        قال الشاعر :

                                        فلست لإنسي ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب

                                        .

                                        ومن أطلق " الصيب " على الغيم فهو من باب المجاز ; لأنه سبب الصيب الذي هو المطر .



                                        وقولها " ولكن بين ذلك " إشارة إلى المسنون في الركوع . وهو الاعتدال واستواء الظهر والعنق .



                                        وقولها " وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما " دليل على الرفع من الركوع والاعتدال فيه . والفقهاء اختلفوا في وجوب ذلك على ثلاثة أقوال .

                                        الثالث : يجب ما هو إلى الاعتدال أقرب . وهذا عندنا من الأفعال التي ثبت استمرار النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، أعني الرفع من الركوع [ ص: 237 ] وأما قولها " وكان إذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي قاعدا " يدل على الرفع من السجود ، وعلى الاستواء في الجلوس بين السجدتين . فأما الرفع : فلا بد منه ; لأنه لا يتصور تعدد السجود إلا به ، بخلاف الرفع من الركوع . فإن الركوع غير متعدد . وسها بعض الفضلاء من المتأخرين ، فذكر ما ظاهره الخلاف في الرفع من الركوع والاعتدال فيه . فلما ذكر السجود قال : الرفع من السجود والاعتدال فيه والطمأنينة كالركوع . فاقتضى ظاهر كلامه : أن الخلاف في الرفع من الركوع جار في الرفع من السجود . وهذا سهو عظيم ; لأنه لا يتصور خلاف في الرفع من السجود ، إذ السجود ، متعدد شرعا . ولا يتصور تعدده إلا بالرفع الفاصل بين السجدتين .

                                        وقولها " وكان يقول في كل ركعتين التحية " أطلقت لفظ " التحية " على التشهد كله ، من باب إطلاق اسم الجزء على الكل . وهذا الموضع مما فارق فيه الاسم المسمى . فإن " التحية " الملك ، أو البقاء ، أو غيرهما على ما سيأتي . وذلك لا يتصور قوله . وإنما يقال اسمه الدال عليه . وهذا بخلاف قولنا : أكلت الخبز وشربت الماء . فإن الاسم هناك أريد به المسمى . وأما لفظة الاسم : فقد قيل فيها : إن الاسم هو المسمى . وفيه نظر دقيق .

                                        وقولها " وكان يفرش رجله اليسرى . وينصب رجله اليمنى " يستدل به أصحاب أبي حنيفة على اختيار هذه الهيئة للجلوس للرجل . ومالك اختار التورك وهو أن يفضي بوركه إلى الأرض ، وينصب رجله اليمنى . والشافعي فرق بين التشهد الأول والتشهد الأخير . ففي الأول اختار الافتراش على التورك . وفي الثاني اختار التورك . وقد ورد أيضا هيئة التورك . فجمع الشافعي بين الحديثين فحمل الافتراش على الأول . وحمل التورك على الثاني . وقد ورد ذلك مفصلا في بعض الأحاديث . ورجح من جهة المعنى بأمرين ليسا بالقويين :

                                        أحدهما : أن المخالفة في الهيئة قد تكون سببا للتذكر عند الشك في كونه في التشهد الأول ، أو في التشهد الأخير .

                                        والثاني : أن الافتراش هيئة استيفاز . فناسب أن تكون في التشهد الأول ; لأن المصلي مستوفز للقيام . والتورك هيئة اطمئنان . فناسب الأخير ، والاعتماد على النقل أولى .

                                        وقولها " وكان ينهى عن عقبة الشيطان " ويروى " عن عقب الشيطان " [ ص: 238 ] وفسر بأن يفرش قدميه ويجلس بأليتيه على عقبيه . وقد سمي ذلك أيضا الإقعاء . وقولها " وينهى أن يفترش إلى قولها - السبع " وهو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود . والسنة : أن يرفعهما ، ويكون الموضوع على الأرض كفيه فقط .



                                        وقولها " وكان يختم الصلاة بالتسليم " أكثر الفقهاء على تعيين التسليم للخروج من الصلاة ، اتباعا للفعل المواظب عليه . ولا يدل الحديث على أكثر من مسمى السلام . وقد يؤخذ من هذا : أن التسليم : من الصلاة لقولها " وكان يختم الصلاة بالتسليم " وليس بالتشهد الظهور في ذلك . وأبو حنيفة يخالف فيه




                                        الخدمات العلمية