الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب المنع من ولاية المرأة والصبي ومن لا يحسن القضاء أو يضعف عن القيام بحقه

                                                                                                                                            3887 - ( عن أبي بكرة قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال : { لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة } رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            3888 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تعوذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان } رواه أحمد )

                                                                                                                                            3889 - ( وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار } رواه ابن ماجه وأبو داود ، وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلا )

                                                                                                                                            3890 - ( وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أفتى بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على الذي أفتاه } رواه أحمد وابن ماجه .

                                                                                                                                            وفي لفظ { من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه } رواه أحمد وأبو داود ) .

                                                                                                                                            3891 - ( وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب إليك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم } )

                                                                                                                                            3892 - ( وعن أبي ذر قال : { قلت : يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ، ثم قال : يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها } رواهما أحمد ومسلم )

                                                                                                                                            [ ص: 304 ] وعن أم الحصين الأحمسية أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل } رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود ) .

                                                                                                                                            3894 - ( وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة } رواه أحمد والبخاري ، وهذا عند أهل العلم محمول على غير ولاية الحكم أو على من كان عبدا ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي هريرة الأول قد أخرجه ما يشهد له أحمد من حديث قيس الغفاري مرفوعا .

                                                                                                                                            وفيه التحذير من إمارة السفهاء ، ورجاله رجال الصحيح ، ومثله أخرجه الطبراني عن عوف بن مالك مرفوعا ، وفي إسناده النهاس بن قهم وهو ضعيف .

                                                                                                                                            وحديث بريدة أخرجه أيضا الترمذي والنسائي والحاكم وصححه . قال الحاكم في علوم الحديث : تفرد به الخراسانيون ورواته مراوزة قال الحافظ : له طرق غير هذه جمعتها في جزء مفرد . وحديث أبي هريرة الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجال إسناده أئمة أكثرهم من رجال الصحيح . وزاد أبو داود { ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه } وحديث أنس لفظ البخاري { أطيعوا السلطان وإن عبدا حبشيا كالزبيبة } قوله : ( لن يفلح قوم . . . إلخ ) فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات ولا يحل لقوم توليتها لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب . قال في الفتح : وقد اتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي إلا عن الحنفية ، واستثنوا الحدود ، وأطلق ابن جرير ويؤيد ما قاله الجمهور أن القضاء يحتاج إلى الرأي ، ورأي المرأة ناقص ولا كمال سيما في محافل الرجال

                                                                                                                                            واستدل المصنف أيضا على ذلك بحديث بريدة المذكور في الباب لقوله فيه : " رجل ورجل " فدل بمفهومه على خروج المرأة قوله : ( وإمارة الصبيان ) فيه دليل على أنه لا يصح أن يكون الصبي قاضيا ، قال في البحر : إجماعا

                                                                                                                                            وأمره صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من رأس السبعين لعله لما ظهر فيها من الفتن العظيمة ، منها قتل الحسين رضي الله عنه ، ووقعة الحرة وغير ذلك مما وقع في عشر السبعين قوله : ( القضاة ثلاثة . . . إلخ ) في هذا الحديث أعظم وازع للجهلة عن الدخول في هذا المنصب الذي ينتهي بالجاهل والجائر إلى النار . وبالجملة فما صنع أحد بنفسه ما صنعه من ضاقت عليه المعايش فزج بنفسه في القضاء لينال من [ ص: 305 ] الحطام وأموال الأرامل والأيتام ما يحول بينه وبين دار السلام مع جهله بالأحكام أو جوره على من قعد بين يديه للخصام من أهل الإسلام قوله : ( من أفتي ) بضم الهمزة وكسر المثناة مبني لما لم يسم فاعله فيكون المعنى من أفتاه مفت عن غير ثبت من الكتاب والسنة ، والاستدلال كان إثمه على من أفتاه بغير الصواب لا على المستفتي المقلد

                                                                                                                                            وقد روي بفتح الهمزة والمثناة فيكون المعنى من أفتى الناس بغير علم كان إثمه على الذي سوغ له ذلك وأفتاه بجواز الفتيا من مثله مع جهله وأذن له في الفتوى ورخص له فيها قوله : ( أراك ضعيفا ) فيه دليل على أن من كان ضعيفا لا يصلح لتولي القضاء بين المسلمين

                                                                                                                                            قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب أدب القضاء له : لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه ، وأن يكون عارفا بكتاب الله عالما بأكثر أحكامه عالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظا لأكثرها ، وكذا أقوال الصحابة عالما بالوفاق والخلاف ، وأقوال فقهاء التابعين ، يعرف الصحيح من السقيم ، يتتبع النوازل من الكتاب ، فإن لم يجد ففي السنة ، فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة ، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به ، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم مع فضل وورع ، ويكون حافظا للسانه ونطقه وفرجه ، فهما لكلام الخصوم ، ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى ، ثم قال : وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم

                                                                                                                                            وقال المهلب : لا يكفي في استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلا لذلك ، بل أن يراه الناس أهلا له . وقال ابن حبيب عن مالك : لا بد أن يكون القاضي عالما عاقلا . قال ابن حبيب : فإن لم يكن علم فعقل وورع ; لأنه بالورع يقف وبالعقل يسأل ، وهو إذا طلب العلم وجده ، فإذا طلب العقل لم يجده انتهى

                                                                                                                                            قلت : ماذا يصنع الجاهل العاقل عند ورود مشكلات المسائل ؟ وغاية ما يفيده العقل التوقف عند كل خصومة ترد عليه وملازمة سؤال أهل العلم عنها والأخذ بأقوالهم مع عدم المعرفة لحقها من باطلها ، وما بهذا أمر الله عباده فإنه أمر الحاكم أن يحكم بالحق وبالعدل وبالقسط وبما أنزل ، ومن أين لمثل هذا العاقل العاطل عن حلية الدلائل أن يعرف حقيقة هذه الأمور ، بل من أين له أن يتعقل الحجة إذا جاءته من كتاب أو سنة حتى يحكم بمدلولها ، ثم قد عرف اختلاف طبقات أهل العلم في الكمال والقصور والإنصاف والاعتساف والتثبت والاستعجال والطيش والوقار والتعويل على الدليل والقنوع بالتقليد ، فمن أين لهذا الجاهل العاقل معرفة العالي من السافل حتى يأخذ عنه أحكامه وينيط به حله وإبرامه ، فهذا شيء لا يعرف بالعقل باتفاق العقلاء ، فما حال هذا القاضي [ ص: 306 ] إلا كحال من قال فيه من قال :

                                                                                                                                            كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الحائر



                                                                                                                                            قوله : ( لا تأمرن على اثنين . . . إلخ ) في هذا النهي بعد إمحاض النصح بقوله صلى الله عليه وسلم : " إني أحب لك ما أحب لنفسي " إرشاد للعباد إلى ترك تحمل أعباء الإمارة مع الضعف عن القيام بحقها من أي جهة من الجهات التي يصدق على صاحبها أنه ضعيف فيها ، وقد قدمنا كلام النووي على هذا الحديث في باب كراهية الحرص على الإمارة قوله : ( وإن أمر عليكم عبد حبشي ) بفتح المهملة والموحدة بعدها معجمة منسوب إلى الحبشة قوله : ( كأن رأسه زبيبة ) هي واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف ، وإنما شبه رأس العبد بالزبيبة لتجمعها ولكون شعره أسود وهو تمثيل في الحقارة وبشاعة الصورة وعدم الاعتداد بها

                                                                                                                                            وقد حكى الحافظ في الفتح عن ابن بطال عن المهلب أنها لا تجب الطاعة للعبد إلا إذا كان المستعمل له إماما قرشيا ; لأن الإمامة لا تكون إلا في قريش . قال : وأجمعت الأمة على أنها لا تكون في العبيد . وحكى في البحر عن العترة أنه يصح أن يكون العبد قاضيا . وعن الشافعية والحنفية أن لا يصح أن يكون العبد قاضيا




                                                                                                                                            الخدمات العلمية