الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ويستحب أن يدنو من الإمام لحديث أوس ، ولا يتخطى رقاب الناس لحديث أبي سعيد وأبي هريرة ، قال الشافعي ( إذا لم يكن للإمام طريق لم يكره [ له ] أن يتخطى رقاب الناس ) وإن دخل رجل وليس له موضع وبين يديه [ ص: 419 ] فرجة لا يصل إليها إلا بأن يتخطى رجلا أو رجلين لم يكره له ; لأنه يسير ، فإن كان بين يديه خلق كثير فإن رجا إذا قاموا إلى الصلاة أن يتقدموا جلس حتى يقوموا ، وإن لم يرج أن يتقدموا جاز أن يتخطى ليصل إلى الفرجة ، ولا يجوز أن يقيم رجلا من موضعه [ ليجلس فيه ] ; لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن يقول : تفسحوا أو توسعوا } فإن قام رجل وأجلسه مكانه باختياره جاز له أن يجلس ، وأما صاحب الموضع فإنه إن كان الموضع الذي ينتقل إليه دون الموضع الذي كان فيه في القرب من الإمام كره له ذلك ; لأنه آثر غيره في القربة ، وإن فرش لرجل ثوب فجاء آخر لم يجلس عليه ، فإن أراد أن ينحيه ويجلس مكانه جاز ، وإن قام رجل من موضعه لحاجة فجلس رجل مكانه ثم عاد فالمستحب أن يرد الموضع إليه ; لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به } قال الشافعي : وأحب إذا نعس ووجد مجلسا لا يتخطى فيه غيره تحول إليه ; لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عمر الأول رواه البخاري ومسلم ، وحديث أبي هريرة رواه مسلم ، وحديث ابن عمر الثاني " إذا نعس أحدكم " رواه أبو داود والترمذي وآخرون بأسانيدهم عن محمد بن إسحاق صاحب المغازي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح .

                                      وقال الحاكم : هو حديث صحيح على شرط مسلم ، وأنكر البيهقي ذلك وقال : روي مرفوعا وموقوفا ، والموقوف أصح ، هكذا قال في كتابه ( معرفة السنن والآثار ) ورواه في السنن الكبير من طريقين ، ثم قال : ولا يثبت رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمشهور أنه من قول ابن عمر واقتصر الشافعي في الأم على روايته موقوفا بإسناده الصحيح عن ابن عمر ، والصواب أنه موقوف كما قاله البيهقي ، وأما تصحيح الترمذي والحاكم فغير مقبول ; لأن مداره على محمد بن إسحاق وهما إنما روياه من روايته ، وهو مدلس معروف بذلك عند أهل الحديث ، وقد قال في روايته عن نافع بلفظ ( عن ) وقد أجمع العلماء من المحدثين والفقهاء والأصوليين أن المدلس إذا قال : عن لا يحتج بروايته ، والحاكم متساهل في التصحيح معروف عند العلماء بذلك ، والترمذي ذهل عن ذلك .

                                      وإنما بسطت الكلام في هذا الحديث لئلا يغتر بتصحيحهما ، ولم يذكر [ ص: 420 ] الحافظ ابن عساكر في الأطراف أن الترمذي صححه ولكن تصحيحه موجود في نسخ الترمذي ، ولعل النسخ اختلفت في هذا الحديث ، كما تختلف في غيره في كتاب الترمذي غالبا .

                                      ( وقوله ) يتخطى غير مهموز ، والفرجة بضم الفاء وفتحها لغتان مشهورتان سبق بيانهما ، ويقال أيضا : فرج ومنه قوله تعالى - : ( وما لها من فروج ) جمع فرج وهو الخلو بين شيئين وقوله نعس ، بفتح العين ينعس ، بضمها .

                                      ( أما أحكام الفصل ) ففيه مسائل : ( إحداها ) : يستحب الدنو من الإمام بالإجماع لتحصيل فضيلة التقدم في الصفوف واستماع الخطبة محققا .

                                      ( الثانية ) ينهى الداخل إلى المسجد يوم الجمعة وغيره عن تخطي رقاب الناس من غير ضرورة ، وظاهر كلام المصنف وغيره أنه مكروه كراهة تنزيه لا حرام ، فإن كان إماما ، ولم يجد طريقا إلى المنبر والمحراب إلا بالتخطي لم يكره ; لأنه ضرورة نص عليه الشافعي كما ذكره المصنف واتفق عليه الأصحاب ، وإن كان غير إمام ورأى فرجة قدامهم ، لا يصلها إلا بالتخطي قال الأصحاب : لم يكره التخطي ; لأن الجالسين وراءها مفرطون بتركها ، وسواء وجد غيرها أم لا وسواء كانت قريبة أم بعيدة لكن يستحب إن كان له موضع غيرها أن لا يتخطى ، وإن لم يكن موضع ، وكانت قريبة بحيث لا يتخطى أكثر من رجلين ونحوهما دخلها ، وإن كانت بعيدة ورجا أنهم يتقدمون إليها إذا أقيمت الصلاة يستحب أن يقعد موضعه ولا يتخطى ، وإلا فليتخط .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في التخطي قد ذكرنا أن مذهبنا أنه مكروه إلا أن يكون قدامهم فرجة لا يصلها إلا بالتخطي فلا يكره حينئذ ، وبهذا قال الأوزاعي وآخرون .

                                      وحكى ابن المنذر كراهته مطلقا عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وسعيد بن المسيب وعطاء وأحمد بن حنبل ، وعن مالك كراهته إذا جلس الإمام على المنبر .

                                      ولا بأس به قبله .

                                      وقال قتادة : يتخطاهم إلى مجلسه وعن أبي نصر جواز ذلك بإذنهم ، [ ص: 421 ] قال ابن المنذر : لا يجوز شيء من ذلك عندي .

                                      لأن الأذى يحرم قليله وكثيره .

                                      وهذا أذى كما جاء في الحديث الصحيح .

                                      قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن يراه يتخطى : " اجلس فقد آذيت " .

                                      ( الثالثة ) قال أصحابنا : لا يجوز أن يقيم الداخل رجلا من موضعه ; لما ذكره المصنف .

                                      وسواء في هذا المسجد وسائر المواضع المباحة التي يختص بها السابق قال القاضي أبو الطيب وصاحب الشامل : ويجوز إقامته في ثلاث صور ، وهي أن يقعد في موضع الإمام أو طريق الناس ، ويمنعهم الاجتياز ، أو بين يدي الصف مستقبل القبلة ، قال في الشامل ، بشرط أن يضيق الموضع على الناس ، فإن اتسع تنحوا عنه يمينا وشمالا ولا ينحوه .

                                      أما إذا قام الجالس باختياره وأجلس غيره فلا كراهة في جلوس الداخل ، وأما الجالس فإن انتقل إلى أقرب شيء إلى الإمام أو مثله لم يكره ، وإن انتقل إلى أبعد منه كره من غير عذر ، قال المصنف وغيره : ودليل كراهته أنه آثر بالقربة وهذا تصريح منهم بأن الإيثار بالقربة مكروه .

                                      ( وأما ) قول الله عز وجل : { ويؤثرون على أنفسهم } فالمراد به في حظوظ النفوس ، والإيثار بحظوظ النفوس مستحب بلا شك وبينه تمام الآية ( ولو كان بهم خصاصة ) وقد يحتج لكراهته بقوله صلى الله عليه وسلم { لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله - تعالى - } وهو حديث صحيح سبق بيانه في باب موقف الإمام .

                                      ( الرابعة ) : قال الشافعي وأصحابنا : يجوز أن يبعث الرجل من يأخذ له موضعا يجلس فيه .

                                      فإذا جاء الباعث تنحى المبعوث ، ويجوز أن يفرش له ثوبا ونحوه ، ثم يجيء ويصلي موضعه فإذا فرشه لم يجز لغيره أن يصلي عليه ، ولكن له أن ينحيه ويجلس مكانه ، وينبغي أن ينحيه بحيث لا يدفعه بيده ، فإن دفعه دخل في ضمانه ، ذكره صاحب البيان وغيره .

                                      ( الخامسة ) : إذا جلس في مكان من المسجد فقام لحاجة كوضوء وغيره ثم عاد فهو أحق به للحديث المذكور في الكتاب ، وفي هذا الحق وجهان ( أحدهما ) : يستحب ( الثاني ) : أن يرده إليه ولا يلزمه .

                                      وبهذا جزم المصنف ، [ ص: 422 ] وهو ظاهر نص الشافعي " وأصحهما " يجب عليه رده إلى الأول ، صححه أصحابنا ، وجزم به جماعة لظاهر الحديث ، قال أصحابنا : وسواء ترك الأول في موضعه ثوبا ونحوه أم لا فهو أحق به في الحالين ، وسواء قام لحاجة بعد الدخول في الصلاة أو قبله ، أما إذا فارق لغير عذر فيبطل حقه بلا خلاف ، وسيأتي بسط هذه المسألة ونظائرها في إحياء الموات إن شاء الله - تعالى - .

                                      ( السادسة ) : إذا نعس في مكانه ووجد موضعا لا يتخطى فيه أحدا يستحب أن يتحول إليه ، نص عليه الشافعي ، واتفقوا عليه للحديث مرفوعا كان أو موقوفا ، ولأنه سبب لزوال النعاس ، قال الشافعي في الأم : وإذا ثبت في موضعه وتحفظ من النعاس بوجه يراه نافيا للنعاس لم أكره بقاءه ، ولا أحب أن يتحول .

                                      ( فرع ) قال الشافعي والأصحاب : إذا حضر قبل صلاة الجمعة أو غيرها استحب أن يستقبل القبلة في جلوسه ، فإن استدبرها جاز ولو اتكأ أو مد رجليه أو ضيق على الناس بغير ذلك كره إلا أن يكون به علة ، قال الشافعي والأصحاب : فإن كان به علة استحب أن يتحول إلى موضع لا يزاحم فيه حتى لا يؤذي ولا يتأذى .




                                      الخدمات العلمية