الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        كم أهلكنا من قبلهم [3]

                                                                                                                                                                                                                                        "كم" في موضع نصب بأهلكنا فنادوا قال قتادة : فنادوا في غير نداء. قال أبو جعفر : ومعناه على قوله في غير نداء ينجي، كما قال الحسن : نادوا بالتوبة وليس حين توبة ولا ينفع العمل، وهذا تفسير من الحسن لقوله جل وعز: ولات حين مناص [قال ليس حين. فأما إسرائيل فيروي عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس "ولات حين مناص" قال: ليس بحين نزو ولا فرار، قال: ضبط القوم جميعا. قال أبو جعفر : وأصله من ناص ينوص إذا تأخر، ويقال: ناص ينوص إذا تقدم. وأما "ولات حين" فقد تكلم النحويون فيه وفي الوقوف عليه، وكثر فيه أبو عبيد القاسم بن سلام في "كتاب القراءات" وكل ما [ ص: 451 ] جاء به فيه إلا يسيرا مردود. قال سيبويه : لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر أي ليست أحيانا حين مناص، وحكي أن من العرب من يرفع بها فيقول "ولات حين مناص" وحكي أن الرفع قليل، ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب أي "ولات حين مناص لنا. والوقوف عليها عند سيبويه والفراء ، وهو قول أبي الحسن بن كيسان وأبي إسحاق، ولات بالتاء ثم تبتدئ حين مناص. قال أبو الحسن بن كيسان : والقول كما قال سيبويه ؛ لأنه شبهها بليس فكما تقول ليست تقول: لات. والوقوف عليها عند الكسائي بالهاء ولاه، وهو قول محمد بن يزيد ، كما حكى لنا عنه علي بن سليمان ، وحكي عنه أن الحجة في ذلك أنها "لا" دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة، كما يقال: ثمة وربة. وأما أبو عبيد فقال: اختلف العلماء فيها فقال بعضهم: لات ثم تبتدئ فتقول: حين ثم لم يذكر عن العلماء غير هذا القول وكلامه يوجب غير هذا ثم ذكر احتجاجهم بأنها في المصاحف كلها كذا ثم قال: وهذه حجة لولا أن ثم حججا تردها ثم ذكر حججا لا يصح منها شيء، وسنذكرها إن شاء الله تعالى، ونبين ما يردها. قال: والوقوف عندي بغير تاء ثم تبتدئ بحين مناص ثم ذكر الحجج فقال: إحداهن أنا لم نجد في كلام العرب لات إنما هي "لا". قال أبو جعفر : لو لم يكن في هذا من الرد إلا اجتماع المصاحف على ما أنكره فكيف وقد روى خلاف ما قال جميع النحويين المذكورين من البصريين والكوفيين، فقال سيبويه : "لات" مشبهة بليس، وقال الفراء عن الكسائي : أحسبه أنه سأل أبا السمال فقال: كيف تقف على ولات؟ فوقف عليها [ ص: 452 ] بالهاء. قال أبو عبيد : والحجة الثانية أن تفسير ابن عباس يدل على ذلك؛ لأن ابن عباس قال: ليس حين نزو ولا فرار. قال أبو جعفر : تفسير ابن عباس يدل على أن الصحيح غير قوله، ولو كان على قوله لقال ابن عباس : ليس تحين مناص ولم يرو هذا أحد. قال أبو عبيد : والحجة الثالثة أنا لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن وأنشد لأبي وجزة السعدي:

                                                                                                                                                                                                                                        العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أين المطعم



                                                                                                                                                                                                                                        وأنشد لأبي زبيد الطائي:

                                                                                                                                                                                                                                        طلبوا صلحنا ولات أوان     فأجبنا أن ليس حين بقاء



                                                                                                                                                                                                                                        وأنشد:

                                                                                                                                                                                                                                        نولي قبل يوم بيني جمانا     وصلينا كما زعمت تلانا



                                                                                                                                                                                                                                        قال أبو جعفر : وإنشاد أهل اللغة جميعا على غير ما قال. قال الفراء . أنشدني المفضل : [ ص: 453 ]

                                                                                                                                                                                                                                        377- تذكر حب ليلى لات حينا     وأضحى الشيب قد قطع القرينا



                                                                                                                                                                                                                                        قال أبو جعفر : فأما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فقرأه العلماء باللغة على أربعة أوجه كلها على خلاف ما أنشده، وفي أحدها تقديران. رواه أبو العباس محمد بن يزيد "العاطفون ولات ما من عاطف"، والرواية الثانية "العاطفون ولات حين تعاطف"، والرواية الثالثة رواها أبو الحسن بن كيسان "العاطفونه حين ما من عاطف" جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج، وزعم أنها لبيان الحركة شبهت بهاء التأنيث، والرواية الرابعة هي "العاطفونه حين ما من عاطف" وفي هذه الرواية تقديران: أحدهما، وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق أن الهاء في موضع نصب كما تقول: الضاربون زيدا، فإذا كنيت قلت: الضاربوه، وأجاز سيبويه الضاربونه في الشعر، فجاء إسماعيل بالبيت على مذهب سيبويه في إجازته مثله. والتقدير الآخر "العاطفونه" على أن الهاء لبيان الحركة، كما تقول: مر بنا المسلمونه، في الوقف ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف كما قرأ أهل المدينة ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه وأما البيت الثاني فلا حجة له فيه لأنه يوقف عليه ولات أوان غير أن فيه شيئا مشكلا لأنه روي "ولات أوان" بالخفض، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا ومنصوبا، وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ (ولات حين مناص) بكسر التاء من "لات" والنون من "حين" فإن الثبت عنه أنه قرأ (ولات حين مناص) فبنى لات على الكسر ونصب حين فأما، "ولات أوان" ففيه تقديران: [ ص: 454 ] قال الأخفش : فيه مضمر أي ولات حين أوان. قال أبو جعفر : وهذا القول بين الخطأ، والتقدير الآخر عن أبي إسحاق ، قال: تقديره: ولات حين أواننا فحذف المضاف إليه فوجب ألا يعرب فكسره لالتقاء الساكنين، وأنشد محمد بن يزيد "ولات أوان" بالرفع.

                                                                                                                                                                                                                                        وأما البيت فبيت مولد لا يعرف قائله، ولا يصح به حجة. على أن محمد بن يزيد رواه "كما زعمت الآن"، وقال غيره: المعنى كما زعمت أنت الآن فأسقط الهمزة من أنت والنون. وأما احتجاجه بحديث عبد الله بن عمر لما ذكر للرجل مناقب عثمان رضي الله عنه. قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك، فلا حجة فيه لأن المحدث إنما يروي هذا على المعنى، والدليل على هذا أن مجاهدا روى عن عمرو بن عمر هذا الحديث، وقال فيه: اذهب فاجهد جهدك، ورواه آخر اذهب بها الآن معك، فأما احتجاجه بأنه وجدها في الإمام "تحين" فلا حجة فيه لأن معنى الإمام أنه إمام للمصاحف فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها، وفي المصاحف كلها ولات. فلو لم يكن في هذا إلا هذا الاحتجاج لكان مقنعا. وجمع مناص مناوص.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية