الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4058 [ ص: 297 ] باب: العين حق، وإذا استغسلتم: فاغسلوا

                                                                                                                              وقال النووي: (باب الطب، والمرض، والرقى) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \النووي، ج171 ج14، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن ابن عباس؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق. ولو كان شيء سابق القدر: سبقته العين. وإذا استغسلتم: فاغسلوا" ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن ابن عباس) رضي الله عنهما؛ (عن النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ قال: العين حق) . أي: شيء ثابت، موجود من جملة ما تحقق كونه.

                                                                                                                              وفيه: رد على من زعم من المتصوفة، أن المراد بالعين هنا: القدر. أي: العين التي تجري منها الأحكام. فإن عين الشيء حقيقته. ووجه الرد: أن الحديث ظاهر، في المغايرة بين القدر وبين العين. وإن كنا نعتقد: أن العين من جملة المقدور. ولكن ظاهره: إثبات العين التي تصيب؛ إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك، وأودعه إياها. وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر، عند تحديد النظر.

                                                                                                                              وإنما جرى الحديث: مجرى المبالغة في إثبات العين؛ لا أنه يمكن أن يرد القدر، إذ القدر عبارة عن سابق علم الله. وهو لا راد لأمره. أشار إلى ذلك القرطبي.

                                                                                                                              [ ص: 298 ] (ولو كان شيء سابق القدر؛ سبقته العين) . أي: لو فرض: أن شيئا له قوة، بحيث يسبق القدر: لكان العين. لكنها لا تسبق. فكيف غيرها؟وقد أخرج البزار: من حديث جابر، بسند حسن؛ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قال: "أكثر من يموت من أمتي، بعد قضاء الله وقدره: بالأنفس") . قال الراوي: يعني: "بالعين" قال النووي: وفيه: إثبات القدر. وهو حق، بالنصوص وإجماع أهل السنة. ومعناه: أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى. ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى، وسبق بها علمه. فلا يقع ضرر العين، ولا غيره من الخير والشر، إلا بقدر الله تعالى.

                                                                                                                              وفيه: صحة أمر العين. وأنها قوية الضرر. والله أعلم.

                                                                                                                              قال المازري: أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث، وقالوا: العين حق. وأنكره طوائف من المبتدعة. والدليل على فساد قولهم: أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل: فإنه من مجوزات العقول؛ إذا أخبر الشرع بوقوعه: وجب اعتقاده. ولا يجوز تكذيبه. وهل من فرق بين تكذيبهم بهذا، وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الآخرة؟ ثم رد على الطبائعيين في قولهم: إن العائن تنبعث من عينه قوة سمية، تتصل بالمعين: [ ص: 299 ] فيهلك، أو يفسد. وقال: لا فاعل إلا الله.

                                                                                                                              ومذهب أهل السنة: أن العين، إنما تفسد وتهلك، عند نظر العائن: بفعل الله تعالى. أجرى الله تعالى العادة: أن يخلق الضرر، عند مقابلة هذا الشخص لشخص آخر.

                                                                                                                              (وإذا استغسلتم فاغسلوا) ، أي: إذا طلبتم للاغتسال، فاغسلوا أطرافكم، عند طلب المعيون ذلك من العائن. وهذا كان أمرا معلوما عندهم، فأمرهم: أن لا يمتنعوا منه، إذا أريد منهم. وأدنى ما في ذلك؛ رفع الوهم. وظاهر الأمر: للوجوب. قال النووي: الشرع ورد بالوضوء لهذا الأمر، في حديث "سهل بن حنيف". رواه مالك، في الموطأ. وصفة الوضوء: أن يؤتى بقدح ماء، ولا يوضع القدح في الأرض. فيأخذ منه غرفة فيتمضمض بها، ثم يمجها في القدح؛ ثم يأخذ منه ماء يغسل وجهه. ثم يأخذ بشماله ماء، يغسل به كفه اليمنى. ثم بيمينه ماء، يغسل به مرفقه الأيسر. ولا يغسل ما بين المرفقين، والكفين. ثم يغسل قدمه اليمنى، ثم اليسرى: على [ ص: 300 ] الصفة المتقدمة. وكل ذلك في القدح. ثم داخلة إزاره، (وهو الطرف المتدلي، الذي يلي حقوه الأيمن) . وقد ظن بعضهم: أن داخلة الإزار: كناية عن الفرج. وجمهور العلماء على ما قدمناه. فإذا استكمل هذا: صبه من خلفه، على رأسه.

                                                                                                                              قال: اختلف العلماء في "العائن"؛ هل يجبر على الوضوء للمعين، أم لا؟ واحتج من أوجبه: بهذا الحديث، وبرواية الموطأ: أنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ أمره بالوضوء، والأمر للوجوب. قال المازري: والصحيح عندي: "الوجوب". ويبعد الخلاف فيه؛ إذا خشي على المعين الهلاك. وكان وضوء العائن، مما جرت العادة بالبرء به.

                                                                                                                              قال عياض: غسل العائن وجهه؛ إنما هو صبه وأخذه بيده اليمنى. وكذلك باقي أعضائه؛ إنما هو صبه صبة على ذلك الوضوء، في القدح. وليس على صفة غسل الأعضاء، في الوضوء وغيره. وكذلك غسل داخلة الإزار؛ إنما هو إدخاله وغمسه في القدح، ثم يقوم الذي في يده القدح، فيصبه على رأس المعين من ورائه، على جميع جسده، ثم يكفأ القدح وراءه، على ظهر الأرض. وقيل: يستغفله بذلك، عند صبه عليه. انتهى.

                                                                                                                              وقد ثبت في هذا الغسل صفات، ذكرها النووي، وغيره. وبهذا المذكور منها: قال الجمهور.

                                                                                                                              [ ص: 301 ] وأخبر الزهري: أنه أدرك العلماء يصفونه، واستحسنه العلماء، ومضى العمل به. والأصل في صفته -كما تقدم-: حديث "سهل بن حنيف"، عند أحمد، وقد بين فيه صفة الغسل. وحديث سهل ذكره صاحب المنتقى، وشرحه في النيل. وهذه الصفة مما لا يمكن تعليلها، ومعرفة وجهها: من جهة العقل. فلا ترد لكونها لا يعقل معناها. قال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع، قلنا له: الله ورسوله أعلم. قال: وقد عضدته التجربة، وصدقته المعاينة. قال ابن القيم: هذه الكيفيات -أي: الواردة في الأحاديث الصحيحة- لا ينتفع بها من أنكرها. ولا من سخر منها. ولا من شك فيها، أو فعلها مجربا غير معتقد. وإذا كان في الطبيعة خواص، لا يعرف الأطباء عللها، بل (عندهم) خارجة عن القياس، وإنما يفعل بالخاصة: فما الذي ينكر جهلتهم من الخواص الشرعية؟ هذا مع أن المعالجة بالاغتسال مناسبة، لا تأباها العقول الصحيحة. فهذا ترياق سم الحية، يؤخذ من لحمها. وهذا علاج النفس الغضبية، توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن. فكأن أثر تلك العين: شعلة نار، وقعت على جسد المعين. ففي الاغتسال: إطفاء لتلك الشعلة. ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة، تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد، لشدة النفوذ فيها. ولا شيء أرق من العين. فكان في غسلها: إبطال لعملها -ولا سيما للأرواح الشيطانية- في تلك المواضع.

                                                                                                                              وفيه أيضا: وصول أثر الغسل إلى القلب، من أرق المواضع [ ص: 302 ] وأسرعها نفاذا، فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين: بهذا الماء. وهذا الغسل المأمور به: ينفع بعد استحكام النظرة. فأما عند الإصابة، وقبل الاستحكام؛ فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه: بقوله (في قصة سهل بن حنيف) : "ألا بركت عليه؟". وفي رواية "ابن ماجه": "فليدع بالبركة". ومثله عند ابن السني؛ من حديث "عامر بن ربيعة". وأخرج البزار، وابن السني؛ من حديث أنس رفعه: "من رأى شيئا فأعجبه، فقال: "ما شاء الله، لا قوة إلا بالله": لم يضره". انتهى.

                                                                                                                              قال عياض: فقه هذا الحديث، (على ما قاله بعض العلماء) : أنه ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين: أن يجتنب ويتحرز منه. وينبغي للإمام: منعه من مداخلة الناس. ويأمره بلزوم بيته. فإن كان فقيرا: رزقه ما يكفيه، ويكف أذاه عن الناس. فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل، الذي منعه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: من دخول المسجد، لئلا يؤذي المسلمين. ومن ضرر المجذوم، الذي منعه عمر -رضي الله عنه-، والعلماء بعده: الاختلاط بالناس. ومن ضرر المؤذيات من المواشي، التي يؤمر بتغريبها، إلى حيث لا يتأذى به أحد. قال النووي: وهذا الذي قاله هذا القائل؛ صحيح متعين، ولا يعرف عن غيره: تصريح بخلافه. والله أعلم. انتهى) .

                                                                                                                              [ ص: 303 ] قلت: وقد اختلف في القصاص بذلك؛ فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئا؛ ضمنه. ولو قتل: فعليه القصاص، أو الدية، إذا تكرر ذلك منه، بحيث يصير عادة. وهو في ذلك، كالساحر. قال الحافظ: ولم يتعرض الشافعية للقصاص، بل منعوه، وقالوا: إنه لا يقتل غالبا، ولا يعد مهلكا.

                                                                                                                              وقال النووي: في "الروضة": ولا دية فيه ولا كفارة؛ لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام، دون ما يختص ببعض الناس؛ في بعض الأحوال، مما لا انضباط له. كيف ولم يقع منه فعل أصلا، وإنما غايته: حسد، وتمن لزوال نعمة. انتهى.




                                                                                                                              الخدمات العلمية