الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين )

                                                                                                                                                                                                                                            وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي ، وعلى هذا فقوله : ( من أقصى المدينة ) فيه بلاغة باهرة ، وذلك لأنه لما ( وجاء من أقصى المدينة رجل ) وهو قد آمن دل على أن إنذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أن ضرب المثل لما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية لقلبه ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعي المؤمنين في تصديق رسلهم وصبرهم على ما أوذوا ، ووصول الجزاء الأوفى إليهم ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد ، كما أن ذكر المرسلين تسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي التفسير مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله : ( وجاء من أقصى المدينة رجل ) في تنكير الرجل مع أنه كان معروفا معلوما عند الله فائدتان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأولى : أن يكون تعظيما لشأنه أي رجل كامل في الرجولية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثانية : أن يكون مفيدا لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به ، فلا يقال : إنهم تواطئوا ، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام وقد آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل وجوده حيث صار من العلماء بكتاب الله ، ورأى فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( يسعى ) تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم ، وقد ذكرنا فائدة قوله : ( من أقصى المدينة ) وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في ( أقصى المدينة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 49 ] والمدينة هي أنطاكية ، وهي كانت كبيرة شاسعة وهي الآن دون ذلك ، ومع هذا فهي كبيرة وقوله تعالى : ( قال ياقوم اتبعوا المرسلين ) فيه معان لطيفة :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : في قوله : ( ياقوم ) فإنه ينبئ عن إشفاق عليهم وشفقة ، فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله : ( ياقوم ) يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيرا ، وهذا مثل قول مؤمن آل فرعون : يا قوم اتبعوني فإن قيل : قال هذا الرجل : ( اتبعوا المرسلين ) وقال ذلك : اتبعوني ، فما الفرق ؟ نقول : هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم وما رأوا سيرته ، فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل ، وأوضحوا لكم السبيل ، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم واتبع موسى ونصحهم مرارا ، فقال : اتبعوني في الإيمان بموسى وهارون عليهما السلام ، واعلموا أنه لو لم يكن خيرا لما اخترته لنفسي ، وأنتم تعلمون أني اخترته ، ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول : أنتم تعلمون اتباعي لهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه ، فقوله : ( اتبعوا ) نصيحة وقوله : ( المرسلين ) إظهار أنه آمن .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان ؛ لأنه كان ساعيا في النصح ، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل ، وقوله : ( رجل يسعى ) يدل على كونه مريدا للنصح ، وما ذكر في حكايته أنه كان يقتل وهو يقول : " اللهم اهد قومي " .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية