الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 362 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في هذه الآية : هل نزلت مرادا بها كل مشركة ، أم مرادا بحكمها بعض المشركات دون بعض ؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا ؟

فقال بعضهم : نزلت مرادا بها تحريم نكاح كل مشركة على كل مسلم من أي أجناس الشرك كانت ، عابدة وثن كانت ، أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك ، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) إلى ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) [ سورة المائدة : 4 - 5 ]

ذكر من قال ذلك :

4212 - حدثني علي بن واقد قال : حدثني عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ، ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) حل لكم ( إذا آتيتموهن أجورهن ) .

4213 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح عن الحسين [ ص: 363 ] بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن البصري قالا " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ، فنسخ من ذلك نساء أهل الكتاب ، أحلهن للمسلمين .

4214 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ، قال : نساء أهل مكة ومن سواهن من المشركين ، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب .

4215 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله .

4216 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قوله : " ولا تنكحوا المشركات " إلى قوله : " لعلهم يتذكرون " ، قال : حرم الله المشركات في هذه الآية ، ثم أنزل في " سورة المائدة " ، فاستثنى نساء أهل الكتاب فقال : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن ) .

وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادا بحكمها مشركات العرب ، لم ينسخ منها شيء ولم يستثن ، وإنما هي آية عام ظاهرها ، خاص تأويلها .

ذكر من قال ذلك :

4217 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ، يعني : مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه .

4218 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا [ ص: 364 ] معمر عن قتادة قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ، قال : المشركات من ليس من أهل الكتاب ، وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية .

4219 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن قتادة في قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ، يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه .

4220 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع عن سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير قوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " ، قال : مشركات أهل الأوثان .

وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادا بها كل مشركة من أي أصناف الشرك كانت ، غير مخصوص منها مشركة دون مشركة ، وثنية كانت أو مجوسية أو كتابية ، ولا نسخ منها شيء .

ذكر من قال ذلك :

4221 - حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال : حدثنا أبي قال : حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال : حدثنا شهر بن حوشب قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام وقال الله تعالى ذكره : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) [ سورة المائدة : 5 ] وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبا شديدا ، حتى هم بأن يسطو عليهما . فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين [ ص: 365 ] ولا تغضب ! فقال : لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن ، ولكن أنتزعهن منكم صغرة قماء .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة : من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها ، لم ينسخ منها شيء وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها . وذلك أن الله تعالى ذكره أحل بقوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) - للمؤمنين من نكاح محصناتهن ، مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات .

وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا ، وفي كتابنا ( كتاب اللطيف من البيان ) : أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيا حكم الآخر في فطرة العقل ، فغير جائز أن يقضى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر ، إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مجيئه . وذلك غير موجود ، أن قوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) ناسخ ما كان قد وجب تحريمه من النساء بقوله : " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " . فإذ لم يكن ذلك موجودا كذلك ، فقول القائل : " هذه ناسخة هذه " ، دعوى لا برهان له عليها ، والمدعي دعوى [ ص: 366 ] لا برهان له عليها متحكم ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .

وأما القول الذي روي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه : من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين ، فقول لا معنى له - لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره ، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك ، بإسناد هو أصح منه ، وهو ما : -

4222 - حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : حدثنا محمد بن بشر قال : حدثنا سفيان بن سعيد عن يزيد بن أبي زياد عن زيد بن وهب قال : قال عمر : المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة .

وإنما ذكره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاح اليهودية والنصرانية حذارا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك ، فيزهدوا في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، فأمرهما بتخليتهما . كما :

4223 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : حدثنا الصلت بن بهرام عن شقيق قال : تزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر : " خل سبيلها " فكتب إليه : " أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ " ، فقال : " لا أزعم [ ص: 367 ] أنها حرام ، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن " .

وقد : -

4224 - حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا إسحاق الأزرق عن شريك عن أشعث بن سوار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا .

فهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به ، لإجماع الجميع على صحة القول به أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب .

فمعنى الكلام إذا : ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركات غير أهل الكتاب حتى يؤمن فيصدقن بالله ورسوله وما أنزل عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية