الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير

"أذقنا" هاهنا مستعارة، لأن "الرحمة" هاهنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك. و"الإنسان" هاهنا اسم الجنس، والمعنى: إن هذا الخلق في سجية الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح. و"ليؤوس" و"كفور" بناءان للمبالغة، و"كفور" هاهنا من كفر النعمة، والمعنى: إنه ييأس ويتحرج ويتسخط، ولو نظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك، ولم يكفرها، لم يكن ذلك، فإن اتفق هذا أن يكون في كافر أيضا بالشرع صح ذلك ولكن ليس من لفظ الآية.

وقال بعض الناس في هذه الآية: "الإنسان" إنما يراد به الكافر، وحمله على ذلك لفظة "كفور"، وهذا عندي مردود، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان.

والنعماء: تشمل الصحة والمال ونحو ذلك والضراء من الضر، وهو أيضا [ ص: 547 ] شامل. وقد يكثر استعمال الضراء فيما يخص البدن. ولفظ ذهب السيئات عني تقتضي بطرا وجهلا أن ذلك بإنعام من الله تعالى، واعتقاد أن ذلك باتفاق أو بعقد من الاعتقادات الفاسدة، وإلا فلو قالها من يعتقد أن ذهابها بإنعام من الله وفضل لم يقع ذلك. و"السيئات" هاهنا: كل ما يسوء في الدنيا.

وقرأت فرقة: "لفرح" بكسر الراء، وقرأت فرقة: "لفرح" بضمها، وهذا الفرح مطلق، ولذلك ذم، إذ الفرح انهمال النفس، ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحا إلا إذا قيد بأنه في خير.

وقوله تعالى: إلا الذين صبروا الآية، هذا الاستثناء متصل على ما قدمناه من أن "الإنسان" عام يراد به الجنس، ومن قال "إنه مخصوص بالكافر" قال هاهنا: إن الاستثناء منقطع، وهو قول ضعيف من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ فجيد، وكذلك قاله من النحاة قوم، واستثنى الله من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ومثابرة عبادة الله، وليس شيء من ذلك في سجية البشر، وإنما حمل على ذلك حب الله وخوف الدار الآخرة والصبر والعمل الصالح لا ينفع إلا مع هداية وإيمان، ثم وعد تبارك وتعالى أهل هذه الصفة -تحريضا عليها وحضا- بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم.

التالي السابق


الخدمات العلمية