الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة الكفار عن تحريم ما أحل الله من رزقه ، مما شرع لهم عمرو بن لحي ( لعنه الله ) من تحريم ما أحل الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أوضح - جل وعلا - هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [ 6 \ 150 ] ، وقوله : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، وقوله : قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين [ 6 \ 140 ] ، وقوله : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا الآية [ 6 \ 139 ] ، وقوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم الآية [ 6 \ 138 ] ، وقوله حجر ، أي : حرام ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله الكذب [ 16 \ 116 ] ، أوجه من الإعراب :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهم : أنه منصوب بـ : تقولوا ، أي : لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من رزق الله بالحل والحرمة ; كما ذكر في الآيات المذكورة آنفا من غير استناد ذلك الوصف إلى دليل ، واللام مثلها في قولك : لا تقولوا لما أحل الله : هو حرام ، وكقوله : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية [ 2 \ 154 ] ، وجملة هذا حلال وهذا [ ص: 462 ] حرام ، بدل من : الكذب ، وقيل : إن الجملة المذكورة في محل نصب : تصف ، بتضمينها معنى تقول ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، فتقول هذا حلال وهذا حرام . وقيل : الكذب ، مفعول به ل تصف ، و ما مصدرية ، وجملة هذا حلال وهذا حرام متعلقة ب لا تقولوا ، أي : لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب ; أي : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ، ويجول في أفواهكم ; لا لأجل حجة وبينة ، قاله صاحب الكشاف . وقيل : الكذب بدل من هاء المفعول المحذوفة ; أي : لما تصفه ألسنتكم الكذب .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      كان السلف الصالح - رضي الله عنهم - يتورعون عن قولهم : هذا حلال وهذا حرام ; خوفا من هذه الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قال الدارمي : أبو محمد في مسنده : أخبرنا هارون ، عن حفص ، عن الأعمش قال : " ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلال ولا حرام ، ولكن كان يقول : كانوا يكرهون ، وكانوا يستحبون " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام ، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا ، ولم أكن لأصنع هذا . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : واللام في قوله : لتفتروا على الله الكذب [ 16 \ 116 ] ، من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض . اه . وكثير من العلماء يقولون : هي لام العاقبة . والبيانيون يزعمون أن حرف التعليل كاللام إذا لم تقصد به علة غائية ; كقوله : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا الآية [ 28 \ 8 ] ، وقوله هنا : لتفتروا على الله الكذب [ 16 \ 116 ] ، أن في ذلك استعارة تبعية في معنى الحرف .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : بل كل ذلك من أساليب اللغة العربية . فمن أساليبها : الإتيان بحرف التعليل للدلالة على العلة الغائية ; كقوله : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط الآية [ 57 \ 25 ] ، ومن أساليبها الإتيان باللام للدلالة على ترتب أمر على أمر ; كترتب المعلول على علته الغائية . وهذا الأخير كقوله : فالتقطه آل فرعون [ ص: 463 ] ليكون لهم عدوا وحزنا [ 28 \ 8 ] ; لأن العلة الغائية الباعثة لهم على التقاطه ليست هي أن يكون لهم عدوا ، بل ليكون لهم قرة عين ; كما قالت امرأة فرعون : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا [ 28 \ 9 ] ، ولكن لما كان كونه عدوا لهم وحزنا يترتب على التقاطهم له ; كترتب المعلول على علته الغائية ، عبر فيه باللام الدالة على ترتيب المعلول على العلة . وهذا أسلوب عربي ، فلا حاجة إلى ما يطيل به البيانيون في مثل هذا المبحث .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية