الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية (دراسة مقارنة)

الدكتور / محمد أحمد مفتي - الدكتور / سامي صالح الوكيل

الفصل الثاني

المعارضة السياسية مقارنة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

بعد أن أوضحنا فيما سبق، قواعد ومنطلقات الحقوق السياسية في التصور الإسلامي، نعرض هـنا تفصيل الأحكام الشرعية الخاصة بممارسة الحقوق السياسية، مع إبراز أوجه الفروق مع الممارسة السياسية، في التشريعات الغربية.

تنطلق المعارضة السياسية في الفكر الغربي من ضرورة ضمان حقوق الأفراد السياسية وحرياتهم، وتعكس حقا فرديا مطلقا، ينبع من كون السيادة مصدرها الشعب، فهي تعكس مصالحهم ورغباتهم. ولذلك إذا اتضح لسبب أو لآخر أن السلطة الحاكمة لا تعبر عن مصالحهم، جاز لهم إظهار عدم قناعتهم عن طريق المعارضة السياسية.

ومن منطلق الحرية المطلقة، حدد "ميل" القواعد الفكرية الأساسية، التي تبنى عليها المعارضة السياسية للنظام السياسي، والتي منها:

أولا: إذا أرغم أي رأي على السكوت، فإن هـذا الرأي، في حدود علمنا، قد يكون صحيحا. وإنكار ذلك إنما يعني افتراض العصمة فينا.

ثانيا: رغم أن الرأي الذي أخمد قد يكون باطلا، فإنه قد يتضمن- وعادة يتضمن، جزءا من الحقيقة، ولما كان الرأي العام، أو السائد في أي موضوع نادرا جدا ما يكون هـو الحقيقة كلها، فإنه لا أمل في الوصول إلى بقية الحقيقة إلا باصطدام الآراء المتعارضة.

ثالثا: حتى إذا كان الرأي المعلن، ليس جزءا من الحقيقة، بل الحقيقة كلها، فإنه إذا لم تسمح بمعارضتها، وإذا لم تعارض فعلا، بقوة وحماسة، فإن من يتلقونها سيعتنقونها كما لو كانت تحيزا، ولا يفهمون [ ص: 79 ] أو يحسون كثيرا بأسسها العقلية

[1]

ويؤكد الكتاب الغربيون كذلك، أن "السلطة" و "المعارضة" توأمان لا ينفصلان: والواقع أن إقامة واستمرار الحكم يتطلبان دوما - مهما كانت أشكاله - وجود عدم المساواة والامتياز. وبالضرورة وجود تباعد وتفاوت بين الحاكم والمحكومين، وبالتالي امتياز لصالح الأولين.. وهذا التفاوت وهذه الامتيازات هـي التي تغذي أساسا، ما يجب أن يسمى بسبب عدم وجود تعبير أكثر ملاءمة "بالمعارضة" [2]

أما الإسلام فإن الحقوق السياسية للمسلم تتركز على ضرورة العمل الإيجابي لإصلاح المجتمع، دون اللجوء إلى المعارضة الدائمة للنظام. ولذلك جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لدوام صلاح البلاد والعباد، والنجاة من الهلاك، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) [هود:116].

ولما كانت دولة الإسلام، دولة فكرية، قائمة على شرع الله سبحانه وتعالى ، ملتزمة بالجهاد في سبيله، وجب عليها التأكد من حسن تطبيق الشرع في الداخل، ومن سلامة البنيان الداخلي للدولة. وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببا لتمييز أمة الدعوة بقوله: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) [آل عمران:110].

ومن هـنا تختلف الدولة الإسلامية عن الدول الوضعية، التي تؤكد دساتيرها على معارضة الحاكم فقط، وذلك رغبة في الحد من سلطته؛ نظرا لأن السلطة "مفسدة" في الفكر الغربي، وكونها مفسدة يعني ضرورة تقييدها، [ ص: 80 ] ولذلك تنص دساتير بعض الدول الغربية على الشروط الكفيلة بمنع تركز السلطة، وذلك عن طريق مبدأ الفصل بين السلطات، وعن طريق تبني مبدأ المعارضة السياسية، كوسيلة دائمة للتعبير عن عدم القناعة بالممارسات السياسية، التي تنتهجها الحكومة.

ويختلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كحق سياسي للمسلم عن "المعارضة" السياسية في الفكر الغربي من عدة أوجه:

أولا: تنطلق المعارضة في الفكر الغربي من قاعدة حفظ "الحرية الفردية"، ومنع الاستبداد، وتهدف في الغالب إلى إظهار خطأ الممارسات السياسية للحكومة، والكشف عنها، بهدف إضعافها أو إسقاطها. أما الإسلام فقد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للتأكد من التزام الحاكم بالشرع، لحراسة الدين من الضياع، ومنع تفشي الظلم والفساد. ولذلك فهدف الأمر بالمعروف ليس حفظ حقوق وحريات الأفراد فقط، وإنما التأكد من إقامة أحكام الإسلام.

ثانيا: يرفض الإسلام فكرة "المعارضة" الدائمة للنظام السياسي، أي "المعارضة للمعارضة". إن الأصل في نظام الإسلام، الطاعة مصداقا لقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [النساء:59].

ولتأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على وجوب طاعة الأمير، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ( ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ) [3]

ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة )

[4]

وقوله عليه الصلاة والسلام : ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية )

[5] [ ص: 81 ]

" وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: ( السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )

[6]

تدل هـذه الأحاديث وغيرها مما تعلق بها، أن طاعة الحاكم في الإسلام أداء لفرض من فروض الدين، وهي بالتالي ليست نابعة من خوف من سطوة حاكم، أو رغبة في دفع شر فاسد، بل هـي نابعة من إيمان بمبدأ واعتناق لعقيدة. هـذا وقد قيد الشرع الطاعة "بالمعروف"، أي بما وافق الشرع، ونهى الإسلام عن الطاعة في المعصية "ما لم يؤمر بمعصية". فالطاعة واجبة ما أقام الحاكم الشرع، وذلك مصداق لقوله تعالى: ( ولا تطيعوا أمر المسرفين ) * ( الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) [الشعراء:151-152]. وقوله تعالى: ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هـواه وكان أمره فرطا ) [الكهف:28].

ولذا كان الإمام يطاع في كل معروف، ولا طاعة له في المعصية، وأما إن كان في الأمر اجتهاد، فإن الواجب على الرعية طاعة الإمام، ولو خالف رأيهم اجتهاده، لكون أحاديث الطاعة في المعروف، جاءت مطلقة ولم تقيد بكون المعروف موافقا لرأي أفراد الرعية، أو مخالفا لهم، وكذلك فقد كان العديد من الصحابة يخالفون إمامهم في مسائل اجتهادية، ومع هـذا يتبعون أمره بالتنفيذ في ذلك، مما يدل على أن الإمام يطاع في كل معروف حتى لو خولف في الرأي.

والمعارضة للمعارضة، فيها إصرار على الخطأ، المؤدي إلى الخيانة والفسق، وقد نهى الله عليه السلام عن الخيانة بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) [الأنفال:27]. وقال تعالى: ( لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) [آل عمران:71].

ونهى سبحانه وتعالى عن قول الزور بقوله: [ ص: 82 ] ( واجتنبوا قول الزور ) [الحج:30]. ولذلك يرفض الإسلام فكرة المعارضة للمعارضة، لقيامها على مرتكزات تخالف الشرع. ومن هـنا يظهر خطأ من يقول: إن المجاهرة بالرأي المعارض ليس جائزا فقط، بل هـو واجب، وما كان واجبا فإن عدم القيام به، أو التقصير فيه، إثم وزور

[7]

حيث إن هـذا القول يسلم بالمنطلقات الفكرية للمعارضة الغربية، ولا يدرك مناقضتها للأحكام الشرعية.

وتؤكد تعاليم الإسلام مع ذلك، أن الحقوق السياسية للمسلمين وجوب المحاسبة، حين ينحرف الحاكم عن شرع الله، لقوله صلى الله عليه وسلم : "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" [8]

ولذلك فظهور الانحراف يستلزم وجود المحاسبة للحاكم، وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإزالة المنكر، والتأكد من حسن تطبيق الشريعة الإسلامية. أما المعارضة السياسية في الفكر الغربي فتبنى على اعتبار السلطة السياسية ذات أثر سلبي على حرية الأفراد، مما يستلزم تقييدها في أضيق حدود.

ثالثا: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كحق سياسي للمسلم، يعتبر واجبا شرعيا، وفرضا على المسلمين في الوقت ذاته لأمر الله سبحانه وتعالى به، لضمان تحقيق الإيمان والعدل، الذين هـما أساس الحكم، وذلك مصداق لقوله تعالى: ( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) [التوبة:112]. يقول ابن تيمية رحمه الله في هـذا الصدد: ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.

[9] [ ص: 83 ]

بينما تنطلق فكرة المعارضة السياسية من اهتمام وحرص الأفراد فقط على عدم استبداد الحاكم.

يتضح إذن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطلق من قاعدة شرعية، وليس من فكرة الحرية الفردية، ويجمع بين كونه حقا سياسيا للمسلمين، وواجبا دينيا عليهم. وقد ورد العديد من الأدلة الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تدل دلالة واضحة على أن الاقتصار على الجانب السلبي المتمثل في المعارضة السياسية، لا يكفي لقيام مجتمع إسلامي متكامل، حيث تجب المبادأة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحاسبة ليستقيم حال المجتمع. وبذلك تقدم النظرية السياسية الإسلامية لحقوق الأفراد السياسية تجسيدا حقيقيا للمشاركة السياسية، يربو على فكرة المشاركة لدى الغرب، لكونها تهدف إلى النهوض بالدولة، وليس الاكتفاء فقط بنقدها ومعارضتها. كما يهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كذلك إلى تأكيد الحق الشرعي للأفراد والجماعات في التصدي لانحرافات الحكومة، في حين تجسد المشاركة السياسة في الفكر الغربي رغبة الأفراد في الحد من سلطة الحاكم، وبالتالي التخفيف من سيطرة الدولة، التي أسماها المفكر السياسي هـوبز "التنين".

ومن الأدلة الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوله تعالى: ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) [الحج:41]. ومنها قوله تعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) [التوبة:71]. وقوله تعالى في وصف بني إسرائيل الذين أغفلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) [المائدة:79].

ومما يدل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن الله سبحانه وتعالى [ ص: 84 ] جعله صفة، يمتاز بها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) [الأعراف:157].

وقد أمر الله به صراحة على لسان عبده لقمان عليه السلام : ( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) [لقمان:17].

وقد أكد ابن تيمية رحمه الله بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هـي السلطان والولاية، فذووا السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هـو القدرة، فيجب على كل إنسان حسب قدرته.

[10] [ ص: 85 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية