الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ قياس الصحابة في الجد مع الإخوة ]

وقال عبد الرزاق : حدثنا سفيان الثوري عن عيسى بن أبي عيسى الحناط عن الشعبي قال : كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا ، وقال : إنه كان من رأي أبي بكر أن الجد أولى من الأخ ، وذكر الحديث ، وفيه : فسأل عنها زيد بن ثابت فضرب له مثلا بشجرة خرجت ولها أغصان ، قال : فذكر شيئا لا أحفظه ، فجعل الثلث .

قال الثوري : وبلغني أنه قال : يا أمير المؤمنين ، شجرة نبتت ، فانشعب منها غصن ، فانشعب من الغصن غصنان ، فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني ، وقد خرج الغصنان من الغصن الأول ؟ قال : ثم سأل عليا ، فضرب له مثلا واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة ، فأعطاه السدس ، وبلغني أن عليا - كرم الله وجهه - حين سأله عمر جعله سيلا ، قال : فانشعب منه شعبة ، ثم انشعبت شعبتان ، فقال : أرأيت لو أن هذه الشعبة الوسطى تيبس أما كانت ترجع إلى الشعبتين جميعا ؟ قال الشعبي : فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة هو ثالثهم ، فإن زادوا على ذلك أعطاه الثلث ، وكان علي يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم ، ويعطيه السدس ، فإن زادوا على ستة أعطاه السدس ، وصار ما بقي بينهم .

وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة قال زيد : وكان رأيي يومئذ أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد ، وعمر بن الخطاب يرى يومئذ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته ، فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة ، فضربت له في ذلك مثلا ، فقلت : لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغذوهما ، ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل ؟ قال زيد : فأنا أعذله وأضرب له هذه الأمثال وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الإخوة ، ويقول : والله لو أني قضيته [ ص: 163 ] اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله ، ولكن لعلي لا أخيب منهم أحدا ، ولعلهم أن يكونوا كلهم ذوي حق .

وضرب علي وابن عباس لعمر يومئذ مثلا معناه لو أن سيلا سال فخلج منه خليج ، ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان . ورأي الصديق أولى من هذا الرأي وأصح في القياس ، لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها .

والجواب عن هذه الأمثلة : أن المقصود أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون القياس في الأحكام ، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من هذه الأسانيد وأثر من هذا الآثار ، فهذه في تعددها واختلاف وجوهها وطرقها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا يشك فيه ، وإن لم يثبت كل فرد من الإخبار به .

وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج قال : أخبرني عمرو ، قال : أخبرني حيي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يقول ، وذكر قصة الذي قتلته امرأة أبيه وخليلها ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلي أن اقتلهما فلو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم ، قال ابن جريج : فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا : إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي : يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور ، فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا ، أكنت قاطعهم ؟ قال : نعم ، قال : وذلك حين استخرج له الرأي .

[ بين ابن عباس والخوارج ]

وقال عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عمن حدثه عن ابن عباس قال : أرسلني علي إلى الحرورية لأكلمهم ، فلما قالوا : " لا حكم إلا لله " قلت : أجل ، صدقتم ، لا حكم إلا لله ، وإن الله حكم في رجل وامرأته ، وحكم في قتل الصيد ; فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل أم الحكم في الأمة يرجع بها ، ويحقن دماءها ، ويلم شعثها ؟

وقال عبد الله بن المبارك : حدثنا عكرمة بن عمار ثنا سماك الحنفي قال : سمعت ابن عباس يقول : قال علي : لا تقاتلوهم حتى يخرجوا ، فإنهم سيخرجون ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فإني أريد أن أدخل عليهم فأسمع من كلامهم وأكلمهم ، فقال علي : أخشى عليك منهم ، قال : وكنت رجلا حسن الخلق لا أوذي أحدا ، قال : فلبست أحسن ما يكون من اليمنية وترجلت ثم دخلت عليهم وهم قائلون ، فقالوا لي : ما هذا اللباس ؟ فتلوت عليهم القرآن : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ ص: 164 ] ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن ما يكون من اليمنية ، فقالوا لا بأس ، فما جاء بك ؟ فقلت : أتيتكم من عند صاحبي ، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وختنه ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي منكم ، وعليهم نزل القرآن ، أبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم ، فما الذي نقمتم ؟ فقال بعضهم : إن قريشا قوم خصمون ، قال الله - عز وجل - : { بل هم قوم خصمون } . فقال بعضهم : كلموه ، فانتحى لي رجلان منهم أو ثلاثة ، فقالوا : إن شئت تكلمت وإن شئت تكلمنا ، فقلت : بل تكلموا ، فقالوا : ثلاث نقمناهن عليه ، جعل الحكم إلى الرجال وقال الله : { إن الحكم إلا لله } ، فقلت : قد جعل الله الحكم من أمره إلى الرجال في ربع درهم في الأرنب وفي المرأة وزوجها : { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } ، أفخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم ، قالوا : وأخرى محا نفسه أن يكون أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فأمير الكافرين هو ، فقلت لهم : أرأيتم إن قرأت من كتاب الله عليكم وجئتكم به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أترجعون ؟ قالوا : نعم ، قلت : قد سمعتم أو أراه قد بلغكم ، أنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : " امح يا علي " أفخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم ، قال : وأما قولكم قتل ولم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها ؟ فإن قلتم نعم فقد كفرتم بكتاب الله وخرجتم من الإسلام ، فأنتم بين ضلالتين ، وكلما جئتهم بشيء من ذلك أقول : أفخرجت منها : فيقولون : نعم ، قال : فرجع منهم ألفان وبقي ستة آلاف ، وله طرق عن ابن عباس ، وقياسه المذكور من أحسن القياس وأوضحه . وقد أنكر ابن عباس على زيد بن ثابت مخالفته للقياس في مسألة الجد والإخوة فقال : ألا يتقي الله زيد ؟ يجعل ابن الابن ابنا ولا جعل أب الأب أبا ؟ وهذا محض القياس .

ولما خص الصديق أم الأم بالميراث دون أم الأب قال له بعض الأنصار : لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها ، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت ، فشرك بينهما . قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال : جاءت جدتان إلى أبي بكر ، فأعطى الميراث أم الأم دون أم الأب ، فقال له رجل من الأنصار من بني حارثة يقال له عبد الرحمن بن سهل : يا خليفة رسول الله ، قد أعطيت الميراث التي لو ماتت لم يرثها ، فجعل الميراث بينهما .

[ ص: 165 ] ولما شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة بن شعبة بالحد ولم يكملوا النصاب حدهم عمر ، قياسا على القاذف ، ولم يكونوا قذفة بل شهودا ; وقال عثمان لعمر : إن نتبع رأيك فرأيك أسد ، وإن نتبع رأي من قبلك فلنعم ذو الرأي كان .

وقال علي : اجتمع رأيي ورأي عمر في بيع أمهات الأولاد أن لا يبعن ، ثم رأيت بيعهن ، فقال له قاضيه عبيدة السلماني : يا أمير المؤمنين رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة .

ولما أرسل عمر إلى المرأة فأسقطت جنينها استشار الصحابة ، فقال له عبد الرحمن بن عوف وعثمان : إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك ; وقال له علي : أما المأثم فأرجو أن يكون محطوطا عنك ، وأرى عليك الدية ، فقاسه عثمان وعبد الرحمن على مؤدب امرأته وغلامه وولده ، وقاسه علي على قاتل الخطأ ، فاتبع عمر قياس علي .

ولما احتضر الصديق رضي الله عنه أوصى بالخلافة إلى عمر رضي الله عنه ، وقاس ولايته لمن بعده إذ هو صاحب الحل والعقد على ولاية المسلمين له إذ كانوا هم أهل الحل والعقد ، وهذا من أحسن القياس

التالي السابق


الخدمات العلمية