الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قالوا ما أخلفنا موعدك أي : وعدنا إياك الثبات على دينك وإيثاره على أن يقال موعدنا على إضافة المصدر إلى فاعله لما مر آنفا .

                                                                                                                                                                                                                                      بملكنا بأن ملكنا أمرنا يعنون أنا ولو خلينا وأنفسنا ولم يسول لنا السامري ما سوله مع مساعدة بعض الأحوال لما أخلفناه . وقرأ بعض السبعة ( بملكنا ) بكسر الميم وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنب بضمها وقرأ عمر رضي الله تعالى عنه ( بملكنا ) بفتح الميم واللام قال في البحر : أي بسلطاننا ، واستظهر أن الملك بالضم والفتح والكسر بمعنى . وفرق أبو علي فقال : معنى المضموم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعلالسامري ، والكلام على حد قوله تعالى لا يسألون الناس إلحافا وقول ذي الرمة :


                                                                                                                                                                                                                                      لا تشتكى سقطة منها وقد رقصت بها المفاوز حتى ظهرها حدب



                                                                                                                                                                                                                                      ومفتوح الميم مصدر ملك ، والمعنى ما فعلنا ذلك بأن ملكنا الصواب ووفقنا له بل غلبتنا أنفسنا، ومكسور [ ص: 246 ] الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ، والمعنى عليه كالمعنى على المفتوح الميم ، والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي بملكنا الصواب ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم استدراك عما سبق واعتذار عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ ، والمراد بالقوم القبط والأوزار الأحمال وتسمى بها الآثام . وعنوا بذلك ما استعاروه من القبط من الحلي برسم التزين في عيد لهم قبيل الخروج من مصر كما أسلفنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : استعاروه باسم العرس . وقيل : هو ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا ، ولعلهم أطلقوا على ذلك الأوزار مرادا بها الآثام من حيث إن الحلي سبب لها غالبا لما أنه يلبس في الأكثر للفخر والخيلاء والترفع على الفقراء ، وقيل : من حيث إنهم أثموا بسببه وعبدوا العجل المصوغ منه ، وقيل من حيث إن ذلك الحلي صار بعد هلاك أصحابه في حكم الغنيمة ولم يكن مثل هذه الغنيمة حلالا لهم بل ظاهر الأحاديث الصحيحة أن الغنائم سواء كانت من المنقولات أم لا لم تحل لأحد قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، والرواية السابقة في كيفية الإضلال توافق هذا التوجيه إلا أنه يشكل على ذلك ما روي من أن موسى عليه السلام هو الذي أمرهم بالاستعارة حتى قيل : إن فاعل التحميل في قولهم (حملنا) هو موسى عليه السلام حيث ألزمهم ذلك بأمرهم بالاستعارة وقد أبقاه في أيديهم بعد هلاك أصحابه وأقرهم على استعماله فإذا لم يكن حلالا فكيف يقرهم ، وكذا يقال على القول بأن المراد به ما ألقاه البحر على الساحل ، واحتمال أن موسى عليه السلام نهى عن ذلك وظن الامتثال ولم يطلع على عدمه لإخفاء الحال عنه عليه السلام مما لا يكاد يلتفت إلى مثله أصلا لا سيما على رواية أنهم أمروا باستعارة دواب من القوم أيضا فاستعاروها وخرجوا بها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يقال : إن أموال القبط مطلقا بعد هلاكهم كانت حلالا عليهم كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل وقد أضاف سبحانه الحلي إليهم في قوله تعالى واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا وذلك يقتضي بظاهره أن الحلي ملك لهم ويدعي اختصاص الحل فيما كان الرد فيه متعذرا لهلاك صاحبه ومن يقوم مقامه ، ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ) . لجواز أن يكون المراد به أحلت لي الغنائم على أي وجه كانت ولم تحل كذلك لأحد قبلي ويكون تسميتهم ذلك أوزارا إما لما تقدم من الوجه الأول والثاني، وإما لظنهم الحرمة لجهلهم في أنفسهم أو لإلقاء السامري الشبهة عليهم ، وقيل : إن موسى عليه السلام أمره الله تعالى أن يأمرهم بالاستعارة فأمرهم وأبقى ما استعاروه بأيديهم بعد هلاك أصحابه بحكم ذلك الأمر منتظرا ما يأمر الله تعالى به بعد . وقد جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن الله سبحانه بين حكمه على لسان هارون عليه السلام بعد ذهاب موسى عليه السلام للميقات كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى، فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك .

                                                                                                                                                                                                                                      والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بحملنا وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لأوزارا ، ولا يتعين ذلك بناء على قولهم : إن الجمل والظروف بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال لأن ذلك ليس على إطلاقه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأخوان وأبو عمرو وابن محيصن ( حملنا ) بفتح الحاء والميم وأبو رجاء ( حملنا ) بضم الحاء وكسر الميم من غير تشديد (فقذفناها) أي طرحناها في النار كما تدل عليه الأخبار . وقيل : أي ألقيناها [ ص: 247 ] على أنفسنا وأولادنا وليس بشيء أصلا (فكذلك) أي فمثل ذلك ألقى السامري أي : ما كان معه منها قيل كأنه أراهم أنه أيضا يلقي ما كان معه من الحلي فقالوا ما قالوا على زعمهم وإنما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر الرسول كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وقيل : إنه ألقى ما معه من الحلي وألقى مع ذلك ما أخذه من أثر الرسول كأنهم لم يريدوا إلا أنه ألقى ما معه من الحلي ، وقيل : أرادوا ألقى التربة ، وأيده بعضهم بتغيير الأسلوب إذ لم يعبر بالقذف المتبادر منه أن ما رماه جرم مجتمع وفيه نظر ، وقد يقال : المعنى: فمثل ذلك الذي ذكرناه لك ألقى السامري إلينا وقرره علينا وفيه بعد، وإن ذكر أنه قال لهم : إنما تأخر موسى عليه السلام عنكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف فيها ما معنا منه ففعلوا وكان صنع في الحفيرة قالب عجل ، وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما فصل موسى عليه السلام إلى ربه سبحانه قال لهم هارون عليه السلام : إنكم قد حملتم أوزارا من زينة القوم إلى فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها فإنها رجس وأوقد لهم نارا فقال لهم : اقذفوا ما معكم من ذلك فيها، فجعلوا يأتون بما معهم فيقذفونه فيها فجاء السامري ومعه تراب من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام وأقبل إلى النار فقال لهارون عليه السلام : يا نبي الله أألقي ما في يدي؟ فقال : نعم ولا يظن هارون عليه السلام إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة فقذفه فيها فقال : كن عجلا جسدا له خوار فكان للبلاء والفتنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا أن بني إسرائيل استعاروا حليا من القبط فخرجوا به معهم فقال لهم هارون بعد أن ذهب موسى عليهما السلام : اجمعوا هذا الحلي حتى يجيء موسى فيقضي فيه ما يقضي، فجمع ثم أذيب فألقى السامري عليه القبضة

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية