الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 314 ] [ ص: 315 ] الفصل السادس : في أن الأمر بالشيء نهي عن ضده

                        ذهب الجمهور من أهل الأصول ، ومن الحنفية ، والشافعية ، والمحدثين والمحدثين إلى أن الشيء المعين المعين إذا أمر أمر به ، كان ذلك الأمر به نهيا عن الشيء المعين المعين المضاد له سواء كان الضد واحدا كما إذا أمره بالإيمان ، فإنه يكون نهيا عن الكفر ، وإذا أمره بالحركة ، فإنه يكون نهيا عن السكون ، أو كان الضد متعددا كما إذا أمره بالقيام ، فإنه يكون نهيا عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك .

                        وقيل : ليس نهيا نهيا عن الضد ، ولا يقتضيه عقلا ، واختاره الجويني والغزالي وابن الحاجب .

                        وقيل : إنه نهي نهي عن واحد من الأضداد غير معين ، وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية والمحدثين ، ومن هؤلاء القائلين بأنه نهي عن الضد من عمم ، فقال : إنه نهي نهي عن الضد في الأمر الإيجابي ، والأمر الندبي ، ففي الأول نهي تحريم ، وفي الثاني نهي كراهة ، ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي ، ومنهم أيضا من جعل النهي عن الشيء أمرا بضده كما جعل الأمر بالشيء نهيا نهيا عن ضده ، ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهيا نهيا عن ضده ، وسكت عن النهي ، وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه .

                        واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهيا نهيا عن ضده ، والنهي عن عن الشيء ليس أمرا بضده ، وذلك لنفيهم الكلام النفسي ، ومع اتفاقهم على هذا النفي أن نفي كون كل واحد منهما عينا لإثبات ضده أو نفيه اختلفوا هل يوجب كل من الصيغتين حكما في الضد ، أم لا ، فأبو هاشم ومتابعوه قالوا : لا يوجب شيء منهما حكما في الضد بل الضد مسكوت عنه ، وأبو الحسين وعبد الجبار قالا : الأمر يوجب حرمة الضد ، وفي عبارة أخرى عنهم يدل عليها ، وفي عبارة ثالثة عنهم يقتضيها .

                        [ ص: 316 ] وقال الرازي والقاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي وصدر الإسلام ، وأتباعهم من المتأخرين : الأمر يقتضي كراهة الضد ، ولو كان إيجابا ، والنهي يقتضي كون الضد سنة سنة مؤكدة ، ولو كان النهي تحريما .

                        وقال جماعة منهم صدر الإسلام وشمس الأئمة وغيرهما أن النزاع إنما هو في أمر الفور لا التراخي ، وفي الضد الوجودي المستلزم للترك للترك لا في الترك ، قالوا : وليس النزاع في لفظ الأمر والنهي ، بأن يقال للفظ الأمر نهي ، وللفظ النهي أمر أمر ; للقطع بأن الأمر موضوع بصيغة ( افعل ) ، والنهي موضوع بصيغة ( لا تفعلتفعل ) ، وليس النزاع أيضا في مفهومها للقطع بأنهما متغايران ، بل النزاع في أن طلب الفعل الذي هو الأمر عين طلب ترك ضده الذي هو النهي ، وفي أن طلب الترك الترك الذي هو النهي عين عين طلب طلب فعل ضده الذي هو الأمر ، هكذا حرروا محل النزاع .

                        وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشيء نهيا نهيا عن ضده استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط ، إذا قيل بأنه ليس نهيا نهيا عن ضده ، أو به ، وبفعل الضد إذا قيل بأنه نهى نهي عن فعل الضد ; لأنه خالف أمرا ونهيا ، وعصى بهما ، وهكذا في النهي .

                        استدل القائلون بأن الأمر بالشيء نهي نهي عن ضده : بأنه لو لم يكن الأمر بالشيء نهيا نهيا عن ضده ، لكان إما مثله ، أو ضده ، أو خلافه ، واللازم بأقسامه باطل ، أما الملازمة ، فلأن كل متغايرين إما أن يتساويا في صفات النفس ، أو لا ، والمعنى بصفات النفس ما لا يحتاج الوصف به إلى تعقل أمر زائد عليه ، كالإنسانية للإنسان ، والحقيقة ، والوجود ، بخلاف الحدوث والتحيز ، فإن تساويا تساويا فيها فهما مثلان كسوادين أو بياضين ، وإلا فإما أن يتنافيا بأنفسهما ، أي يمتنع يمتنع اجتماعهما في محل واحد بالنظر إلى ذاتيهما أو لا ، فإن تنافيا بأنفسهما فضدان كالسواد والبياض ، وإلا فخلافان كالسواد والحلاوة .

                        وأما انتفاء اللازم بأقسامه فلأنهما لو كانا ضدين ، أو مثلين مثلين لم يجتمعا في محل واحد ، وهما يجتمعان إذ جواز الأمر بالشيء ، والنهي عن ضده معا ، ووقوعه ضروري .

                        [ ص: 317 ] ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل واحد منهما مع ضد الآخر ومع خلافه ; لأن الخلافين حكمهما كذلك ، كما يجتمع السواد ، وهو خلاف الحلاوة مع الحموضة ومع الرائحة ، فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده ، وهو الأمر بضده ، وذلك محال ; لأنه يكون الأمر بالشيء حينئذ طلب طلب ذلك الشيء في وقت طلب فيه عدمه .

                        وأجيب وأجيب : بمنع كون لازم كل خلافين ذلك ، أي جواز اجتماع كل مع ضد الآخر ، لجواز تلازمهما على ما هو التحقيق مع عدم اشتراط جواز الانفكاك في المتغايرين ، كالجوهر مع العرض ، والعلة مع المعلول ، فلا يجامع يجامع أحد الخلافين على تقدير تلازمهما تلازمهما الضد الآخر ، وحينئذ فالنهي إذا ادعى كون الأمر إياه إذا كان طلب ترك ترك ضد المأمور به اخترنا كونهما كونهماخلافين خلافين ، ولا يجب يجب اجتماع النهي اللازم من الأمر مع ضد طلب المأمور به ، كما زعموا كالأمر بالصلاة ، والنهي عن الأكل ، فإنهما خلافان خلافان ، ولا يلزم من كونهما خلافين خلافين اجتماع الصلاة المأمور بها ، مع إباحة الأكل التي هي ضد النهي عن الأكل .

                        واستدلوا أيضا : بأن فعل السكون عين ترك ترك الحركة ، وطلب فعل السكون طلب طلب لترك الحركة ، وطلب تركها تركها هي النهي .

                        وأجيب : بأن النزاع على هذا يرجع لفظيا في تسمية فعل المأمور به تركا لضده ، وفي تسمية طلبه نهيا نهيا ، فإن كان ذلك باعتبار اللغة ، فلم يثبت فيها ما يفيده ذلك .

                        ورد ورد : بمنع كون النزاع لفظيا لفظيا ، بل هو في وحدة الطلب القائم بالنفس ، بأن يكون طلب الفعل عين عين طلب طلب ترك ضده .

                        وأجيب ثانيا : بحصول القطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد ، وإنما يتم ما ذكروه من كون فعل السكون عين ترك ترك الحركة فيما كان أحدهما ترك الآخر ، لا في الأضداد الوجودية ، فطلب ترك ترك أحدهما أحدهما لا يكون طلبا طلبا للمأمور به ; لأنه يتحقق تركه في ضمن ضد آخر .

                        واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء ليس نهيا نهيا عن الضد ولا نقيضه : بأنه لو كان الأمر بالشيء عين عين النهي عن الضد ومستلزما له لزم تعقل الضد ، والقطع حاصل بتحقق الأمر بالشيء مع عدم خطور الضد على البال ، وهكذا الكلام في النهي .

                        واعترض واعترض على هذا الاستدلال : بأن الذي لا يخطر بالبال من الأضداد إنما هو [ ص: 318 ] الأضداد الجزئية ، وليست مرادة للقائل بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والنهي عن الشيء أمر بضده ، بل المراد الضد العام ، وهو ما لا يجامع المأمور به ، وتعقله لازم للأمر والنهي إذاا طلب طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه بعدمه ; لانتفاء طلب الحاصل المعلوم حصوله حصوله ، والعلم بالعدم ملزوم للعلم بالضد الخاص ، والضد الخاص ملزوم للضد العام ، فلا فلابد من تعقل الضد العام في الأمر بالشيء ، وكذلك لا بد منه في النهي عن الشيء .

                        ولا يخفى ما في هذا الاعتراض من عدم التوارد ، فإن شرط التوارد الذي هو مدار الاعتراض كون كون مورد الإيجاب والسلب للمتخاصمين للمتخاصمين بحيث يكون قول كل منهما على طرف النقيض لقول الآخر ، والمستدل إنما نفى خطور الضد الخاص على الإطلاق ، فقول المعترض : إن الذي لا يخطر هو الأضداد الجزئية ، موافقة معه فيها ، فلا تتحقق المناظرة بينهما باعتبار ذلك . نعم يجاب عنه بأن مراد المعترض من ذلك بيان غلط المستدل من حيث أإنه اشتبه عليه مراد القائل بأن الأمر بالشيء نهي نهي عن الضد ، فزعم أن مراده الأضداد الجزئية ، وليس كذلك ، بل الضد العام ، ولا يصح نفي خطوره بالبال لما تقدم ، فحينئذ تنعقد المناظرة بينهما ، ويتحقق التوارد .

                        وأيضا : هذا الاعتراض متناقض في نفسه ، فإن قول المعترض إن ما لا يخطر بالبال هو الأضداد الجزئية ، يناقض قوله إن العلم بعدم الفعل ملزوم العلم بالضد الخاص ; لأن الإيجاب الجزئي نقيض السلب الكلي عند اتحاد النسبة .

                        وأجيب : بمنع توقف الأمر بالفعل على العمل بعدم التلبس بذلك الفعل في حال الأمر به ; لأن المطلوب مستقبل ، فلا حاجة للطالب إلى الالتفات إلى ما في الحال من وجود الفعل ، أو عدمه عدمه ، ولو سلم توقف الأمر بالفعل على العلم بعدم التلبس به ، فالكف عن الفعل المطلوب مشاهد مشاهد محسوس ، فقد تحقق ما توقف عليه الأمر بالفعل من العلم بعدم التلبس به ، ولا يستلزم شهود الكف عن الفعل المأمور به العلم بفعل ضد خاص لحصول شهود الكف بالسكون عن الحركة اللازمة لمباشرة الفعل المأمور به ، ولو سلم سلم لزوم تعقل الضد في الجملة ، فمجرد تعلقه ليس ملزوما لتعلق الطلب بتركه الذي هو معنى النهي عن الضد لجواز الاكتفاء في الأمر بالشيء بمنع ترك الفعل المأمور به فترك فترك المأمور به ضد له ، وقد تعقل تعقل حيث منع منع عنه ، لكنه فرق فرق بين المنع عن الترك ، وبين طلب الكف عن الترك .

                        وتوضيحه : أن الآمر بفعل غير مجوز تركه تركه فقد يخطر بباله تركه تركه من حيث إنه لا [ ص: 319 ] يجوزه ملحوظا بالتبع لا قصدا ، وبهذا الاعتبار يقال منع منع تركه تركه ، ولا يقال طلب الكف عن تركه ; لأنه يحتاج إلى توجه قصدي .

                        واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده ، بأن أمر الإيجاب طلب طلب فعل يذم يذم بتركه فاستلزم النهي عن تركه ، وعما يحصل الترك به ، وهو الضد للمأمور به ، فاستلزم الأمر المذكور النهي عن ضده .

                        واعترض واعترض على هذا الدليل : بأنه لو تم ، لزم تصور الكف عن الكف عن المأمور به لكل أمر إيجاب ، وتصور الكف عن الكف لازم لطلب الكف عن الكف ، واللازم باطل للقطع بطلب الفعل ، مع عدم خطور الكف عن الكف ، ولو سلم سلم تصور الكف عن الكف منع منع كون كون الذم بالترك جزء الأمر الإيجابي ، أو لازم لازم مفهومه مفهومه لزوما عقليا ، واستلزام الأمر الإيجابي النهي عن تركه فرع كون كون الذم بالترك بالترك جزءا أو لازما .

                        وما قيل من أنه لو سلم سلم أن الأمر بالشيء متضمن للنهي عن ضده ، لزم أن لا مباح إذ ترك ترك المأمور به وضده وضده يعم المباحات ، والمفروض أن الأمر يستلزم النهي عنها ، والمنهي منه لا يكون مباحا فغير لازم ، إذ المراد من الضد المنهي عنه الضد المفوت للأمر ، وليس كل ضد مفوتا ، ولا كل مقدر من المباحات ضدا مفوتا كخطوة في الصلاة ، وابتلاع ريقه ، وفتح وفتح عينه عينه ، ونحو ذلك ، فإنها أمور مغايرة بالذات للصلاة ، وبهذا الاعتبار يطلق عليها الضد للصلاة ، لكنها لا تفوت الصلاة .

                        وزاد القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده كما أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده دليلا آخر ، فقالوا : أن إن النهي طلب ترك ترك فعل فعل وتركه وتركه بفعل أحد أضداده ، فوجب أحد أضداده وهو الأمر ; لأن ما لا يحصل الواجب إلا به واجب .

                        ودفع بأنه يلزم يلزم كون كل من المعاصي المضادة واجبا كالزنا ، فإنه من حيث كونه كونه تركا للواط للواط لكونه ضدا له يكون واجبا ، ويكون اللواط من حيث كونه كونه تركا للزنا واجبا .

                        ودفع ودفع أيضا : بأنه يستلزم أن لا يوجد مباح ; لأن كل مباح ترك ترك المحرم وضد له ، فإن قيل : غاية ما يلزم وجوب أحد المباحات المضادة لا كلها كلها ، فيقال : أن إن وجوب أحد الأشياء لا على التعيين بحيث يحصل ما هو الواجب بأداء كل واحد منها ينافي الإباحة كما في خصال الكفارة .

                        [ ص: 320 ] ودفع ودفع أيضا : بمنع وجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به .

                        ورد ورد بأنه لو لم يجب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به لجاز تركه ، وذلك يستلزم جواز ترك ترك المشروط في الواجب ، وجواز فعل المشروط في المحرم بدون شرطه ، الذي لا يتم إلا به .

                        واستدل المخصصون لأمر الإيجاب ، بأن استلزام الذم للترك المستلزم للنهي إنما هو في أمر الوجوب .

                        واستدل القائل بأن الأمر يقتضي كراهة الضد ، ولو إيجابا ، والنهي يقتضي كون الضد سنة سنة مؤكدة بمثل ما استدل به القائلون : بأن الأمر بالشيء نهي نهي عن ضده إن كان واحدا وإلا فعن الكل ، وإن وأن النهي أمر بالضد المتحد ، وفي المتعدد بواحد غير معين .

                        ويجاب عنه : بأن ذكر الكراهة في جانب الأمر ، وذكر السنية في جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم .

                        وإذا عرفت عرفت ما حررناه من الأدلة والردود لها ، فاعلم أن الأرجح في هذه المسألة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده بالمعنى الأعم ، فإن اللازم بالمعنى الأعم هو أن يكون تصور الملزوم ، واللازم معا كافيا في الجزم باللزوم ، بخلاف اللازم بالمعنى الأخص ، فإن العلم بالملزوم هناك يستلزم العلم باللازم ، وهكذا النهي عن الشيء ، فإنه يستلزم الأمر بضده بالمعنى الأعم .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية