الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              1480 - حدثنا أبو الحسن أحمد بن قاسم الشبي ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن من سمع الحسن ، يحدث عن الأسود بن سريع ، قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية ، فأفضى بهم القتل إلى الذرية ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " ما حملكم على قتل الذرية ؟ " قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أليسوا أولاد المشركين ؟ قال : " أوليس خياركم أولاد [ ص: 71 ] المشركين ؟ " ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : " ألا كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه " .

              قال الشيخ : " وما أكثر من عشيت بصيرته عن فهم هذا الحديث ، فتاه قلبه وتحير عقله ، فضل وأضل به خلقا كثيرا ، وذلك أنه يتأول الخبر على ما يحتمله عقله من ظاهره ، فيظن أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كل مولود يولد على الفطرة " ، أراد بذلك أن كل مولود يولد مسلما مؤمنا ، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ، فمن قال ذلك أو توهمه ، فقد أعظم الفرية على الله عز وجل وعلى رسوله ، ورد القرآن والسنة وخالف ما عليه المؤمنون من الأمة ، وزعم أن اليهود والنصارى يضلون من هداه الله عز وجل من أولادهم ويشقون من أسعده ، ويجعلون من أهل النار من خلقه الله للجنة ، ويزعم أن مشيئة اليهود والنصارى والمجوس في أولادهم كانت أغلب ، وإراداتهم أظهر وأقدر من مشيئة الله وإرادته وقدرته في أولادهم ، حتى كان ما أرادته اليهود والنصارى والمجوس ، ولم يكن ما أراده الله تعالى [ ص: 72 ] عما تقوله القدرية المفترية على الله علوا كبيرا .

              فأما هذا الحديث ، فإن بيان وجهه في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند العلماء والعقلاء بيان لا يختل على من وهب الله له فهمه وفتح أبصار قلبه ، وذلك قول الله عز وجل وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ثم جاءت الأحاديث بتفسير ذلك أن الله عز وجل أخذهم من صلب آدم كهيئة الذر ، فأخذ عليهم العهد والميثاق بأنه ربهم ، فأقروا له بذلك أجمعون ، ثم ردهم في صلب آدم ، ثم قال عز وجل فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله فكانت البداية التي ابتدأ الله عز وجل الخلق بها ودعاهم إليها ، وذلك أن بداية خلقهم الإقرار له بأنه ربهم وهي الفطرة ، والفطرة هاهنا ابتداء الخلق ، ولم يعن بالفطرة الإسلام وشرائعه وسننه وفرائضه ، ألا تراه يقول لا تبديل لخلق الله ومما يزيدك في بيان ذلك ووضوحه قوله تعالى الحمد لله فاطر السماوات والأرض يعني أنه بدأ خلقها ، فقوله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة " يعني : على تلك البداية التي ابتدأ الله عز وجل خلقه بها وأخذ مواثيقهم عليها من الإقرار له بالربوبية ، ثم يعرب عنه لسانه بما يلقنه أبواه من الشرائع والأديان ، فيعرب بها وينسب إليها ، ثم هو من بعد إعراب لسانه واعتقاده [ ص: 73 ] لدين آبائه راجع إلى علم الله عز وجل فيه ، وما سبق له في أم الكتاب عنده أن كان ممن سبقت له الرحمة لم تضره أبوته ، ولا ما دعاه إليه وعلمه أبواه من دين اليهودية والنصرانية والمجوسية ، فما أكثر من ولدته اليهود والنصارى والمجوس ونشأ فيهم ومعهم وعلى أديانهم وأقوالهم وأفعالهم ، ثم راجع بدايته وما سبق له من الله ومن عنايته بهدايته ، فحسن إسلامه ، وظهر إيمانه ، وشرح الله صدره بالإسلام ، وطهر قلبه بالإيمان ، فعاد بعد الذي كان عليه من طاعته لأبويه عاصيا ، ومحبته لهما بغضا ، وسلمه لهما وذبه عنهما لهما حربا وعليهما عذابا صبا ، ولو كان الأمر على ما تأولته الزائغون أن كل مولود يولد على الفطرة عنى دين الإسلام وشرائعه ، لكان من سبيل المولود من اليهود والنصارى إذا مات أبواه وهو طفل ألا يرثهما ، وكذلك إن مات لم يرثاه ، لما عليه الأمة مجمعون أنه لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم ، وقد كان من سبيل الطفل من أولاد أهل الكتاب إذا مات في صغره أن يتولاه المسلمون ويصلوا عليه ، ولا يدفن إلا معهم وفي مقابرهم ، فإن كان الحكم في معنى هذا الحديث كما تأولته القدرية وليس هو كذلك - والحمد لله - فقد ضلت الأمة وخالفت الكتاب والسنة حين خلت بين اليهود والنصارى وبين الأطفال من المسلمين ، يأخذون مواريثهم ويلون غسلهم والصلاة عليهم ، والدفن لهم ، لكن المسلمون مجمعون وعلى إجماعهم مصيبون - والحمد لله - أن من مات من أطفال اليهود والنصارى والمجوس ورثه أبواه وورث هو أبويه ، ووليا هما غسله ودفنه ، وأن أطفالهم [ ص: 74 ] منهم ومعهم وعلى أديانهم ، وإنما قوله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة " إنما أراد أنهم يولدون على تلك البداية التي كانت في صلب آدم عليه السلام من الإقرار لله بالمعرفة ، ثم أعربت عنهم ألسنتهم ونسبوا إلى آبائهم ، فمنهم من جحد بعد إقراره الأول من الزنادقة الذين لا يعترفون بالله ولا يقرون به وغيرهم ممن لم يبلغه الإسلام في أقطار الأرض الذين لا يدينون دينا وسائر الملل ، فمقرون بتلك الفطرة التي كانت في البداية ، فإنك لست تلقى أحدا من أهل الملل وإن كان كافرا إلا وهو مقر بأن الله ربه وخالقه ورازقه ، وهو في ذلك كافر حين خالف شريعة الإسلام .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية