الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين : إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل فلم تزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود كما قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وهذا الذنب ذنب عملي . وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل . وهذا من خطأ الاجتهاد ; وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل [ ص: 46 ] له وأدى ما وجب عليه ; فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا . فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة . فالسبب الأول : هو الظلم . والسبب الثاني : هو عدم العلم . والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } .

                وأصل هذا : أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان : كالدم والميتة ولحم الخنزير ; أو من التصرفات : كالميسر والربا وما يدخل فيهما من بيوع الغرر وغيره ; لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } فأخبر سبحانه : أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب ; فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك . وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : " { كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار ، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع : إنه أصاب الثمر دمان ، أصابه مراض أصابه قشام : عاهات يحتجون بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة في ذلك - : فأما لا فلا تبايعوا حتى يبدو [ ص: 47 ] صلاح الثمر كالمشورة لهم يشير بها لكثرة خصومتهم واختلافهم } وذكر خارجة بن زيد : " { أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر } رواه البخاري تعليقا وأبو داود إلى قوله : " خصومتهم " . وروى أحمد في المسند عنه قال : " { قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة . فقال : ما هذا ؟ فقيل له : إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون : أصابها الدمان والقشام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها } .

                فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك : ما أفضت إليه من الخصام . وهكذا بيوع الغرر . وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس . وفي مسلم من حديث أبي هريرة وفي حديث أنس تعليله ففي الصحيحين عن أنس : " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل : وما تزهى ؟ قال : حتى تحمر أو تصفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ } وفي رواية " { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يزهو فقلنا لأنس : ما زهوها . قال : تحمر [ ص: 48 ] أو تصفر أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك ؟ } قال أبو مسعود الدمشقي : جعل مالك والدراوردي قول أنس : " { أرأيت إن منع الله الثمرة } من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أدرجاه فيه : ويرون أنه غلط .

                فهذا التعليل - سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو كلام أنس - فيه بيان أن في ذلك أكلا للمال بالباطل حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون .

                وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل : فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل . لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض . وإن لم يجز غيره بعوض . وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل وإن كان فيه منفعة - وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " { كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق } - صار هذا اللهو حقا .

                ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض وأكل مال بالباطل ; لأن الغرر فيها [ ص: 49 ] يسير كما تقدم . والحاجة إليها ماسة . والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر . والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم ; فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك وقاله جمهور العلماء . كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى .

                ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث : أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة كانت من ضمان البائع . كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا . بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ } . وفي رواية لمسلم عنه : " { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح } .

                والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث - وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة فيه اضطراب - أخذ في ذلك بقول الكوفيين : إنها تكون من ضمان المشتري ; لأنه مبيع قد تلف بعد القبض ; لأن التخلية بين المشتري وبينه قبض . وهذا على أصل الكوفيين أمشى ; لأن المشتري لا يملك إبقاءه على الشجر وإنما موجب العقد عندهم : القبض الناجز بكل حال . وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه مع [ ص: 50 ] أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك . مع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع وينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا . ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصحيح يوافقه وهو ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ } فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذاذها عند كمالها ونضجها لا عند العقد كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا . فتلف الثمرة قبل التمكن من الجذاذ كتلف العين المؤجرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة وفي الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق . فكذلك في البيع .

                وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة وأن المشتري لم يملك الإبقاء . وهذا الفرق لا يقول بهالشافعي وسنذكر أصله .

                فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها . وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { لا تبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة } وفي لفظ لمسلم عنه : " { نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة : نهى البائع والمشتري } وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض } .

                [ ص: 51 ] فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما . فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة . فإن هذا لا سبيل إليه ; إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين { أقسموا ليصرمنها مصبحين } { ولا يستثنون } وما ذكره في " سورة يونس " في قوله : { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } وإنما المقصود ذهاب العاهة التي يتكرر وجودها وهذه إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب وقبل ظهور النضج في الثمر ; إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله ولأنه لو منع بيعه بعد هذه الغاية لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح . وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر ; لأنه لا يكمل جملة واحدة . وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر .

                فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته .

                ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح : أفسد كثيرا من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية