الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله : [ ص: 249 ] الإخبار عن اليهود والنصارى في هذه الآية لفظه عموم، ومعناه الخصوص؛ لأن قائل ذلك بعضهم. وقيل: إن قائل ما حكي عن اليهود: سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشأس بن قيس، ومالك بن الصيف، قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية فيهم، قاله ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ذلك قولهم بأفواههم : أكد بـ(الأفواه) ؛ إذ قد يخبر بـ(القول) عن الاعتقاد، [ويجوز أن يريد الله تعالى: أنه قول منهم، لا يعضده برهان، ولا يرجعون فيه إلا إلى اللسان، ويجوز أن يكون {بأفواههم} تأكيدا].

                                                                                                                                                                                                                                      يضاهئون قول الذين كفروا من قبل أي: يشابهون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله معنى اتخاذهم إياهم أربابا: أنهم أحلوا لهم الحرام، فاستحلوه، وحرموا عليهم الحلال؛ فحرموه، روي معنى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: أن يطفئوا نور الله بأفواههم : قال الحسن: يعني: القرآن والإسلام، وقيل: هو الدلالة والبرهان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ليظهره على الدين كله : قال أبو هريرة: هذا عند خروج [ ص: 250 ] عيسى عليه السلام، وقيل: المعنى: ليعلمه شرائع الدين كلها؛ فتكون الهاء في {ليظهره} للنبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، والهاء في القول الأول لـ {الدين} .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ولا ينفقونها في سبيل الله : الضمير للكنوز، ودل عليها {يكنزون} ، وقيل: هو للفضة التي أخبر عنها، واستغنى عن الإخبار عن الذهب إيجازا واختصارا، ومثله: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها [الجمعة: 11].

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض : قال مجاهد، والحسن: هذا في غزوة تبوك، وكانت في شدة الحر.

                                                                                                                                                                                                                                      أرضيتم بالحياة الدنيا أي: بنعيم الحياة الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: يعذبكم عذابا أليما : قال ابن عباس: هو حبس القطر الذي حبسه عنهم حين تثاقلوا عن الخروج.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولا تضروه شيئا : قيل: (الهاء) لله تعالى، وقيل: للنبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين يعني: أبا بكر رضي الله عنه؛ والمعنى: أحد اثنين، واستدل بعض أهل العلم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغار على جواز الفرار مما يخاف، وفساد قول من منع ذلك وقال: من خاف مع الله سواه؛ لم يؤمن بالقدر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فأنـزل الله سكينته عليه : قيل: على أبي بكر، وقيل: على النبي صلى الله عليه وسلم، والهاء في {وأيده} : للنبي صلى الله عليه وسلم، و (الجنود) : هي الملائكة التي بشرته بالنصر، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين حين انصرفوا خائبين.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 251 ] وجعل كلمة الذين كفروا السفلى : {جعل} ههنا بمعنى: صير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك : (العرض) : ما يعرض من منافع الدنيا، أخبر تعالى عنهم أنهم لو دعوا إلى غنيمة؛ لاتبعوه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن بعدت عليهم الشقة : {الشقة} : الغاية التي يقصد إليها، والمراد بذلك كله: غزوة تبوك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: عفا الله عنك : قيل: إنه استفتاح كلام؛ كما تقول: رحمك الله، وأعزك الله؛ فالوقف عليه -على هذا- حسن، وقيل: المعنى: عفا الله عنك ما كان من ذنبك في إذنك لهم؛ فلا يحسن الوقف عليه على هذا التقدير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين أي: يتبين لك من صدق ممن نافق، ثم أعلم الله أن الاستئذان في التخلف من غير عذر من علامات النفاق، فقال: لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله ، إلى قوله: فهم في ريبهم يترددون .

                                                                                                                                                                                                                                      {وارتابت} معناه: شكت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: أن يجاهدوا أي: كراهة أن يجاهدوا.

                                                                                                                                                                                                                                      فهم في ريبهم يترددون أي: في شكهم يذهبون ويرجعون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة أي: لتأهبوا أهبة السفر، ولكن كره الله انبعاثهم أي: خروجهم، {فثبطهم} أي: حبسهم عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 252 ] وقيل اقعدوا مع القاعدين : قيل: هذا من قول بعضهم لبعض، وقيل: هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، و (القاعدون) : النساء والصبيان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ما زادوكم إلا خبالا يعني: فسادا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولأوضعوا خلالكم : (الإيضاع) : سرعة السير؛ والمعنى: لأسرعوا فيما يخل بكم؛ أي: ينقصكم.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن: المعنى: لأوضعوا خلالكم بالنميمة، وإفساد ذات البين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: معناه: لأسرعوا فيما بينكم بالإفساد، و (خلال القوم) : الفرج التي تكون بين الصفوف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: يبغونكم الفتنة أي: يطلبون لكم الإفساد، وقيل: {الفتنة} ههنا: الشرك.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيكم سماعون لهم أي: من يستمع ويخبرهم، قتادة: المعنى: وفيكم من يقبل منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ما زادوكم إلا خبالا : ولم يكن المسلمون في خبال؛ لأن التقدير: ما زادوكم قوة، لكنهم يطلبون لكم الخبال، فهو استثناء منقطع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: قال ذلك؛ لأن ما يعرض في نفوس المسلمين من الآراء المختلفة كأنه بمنزلة الخبال.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 253 ] وقوله تعالى: لقد ابتغوا الفتنة من قبل أي: خبال أصحابك، وصدهم عن دينهم، من قبل أي: من قبل أن ينزل عليك كشف سرائرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وقلبوا لك الأمور أي: أجالوا الرأي في إبطال ما جئت به، حتى جاء الحق أي: نصر الله، وظهر أمر الله أي: دينه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي أي: ائذن لي في التخلف، ولا تفتني أي: ولا تؤثمني بالعصيان في مخالفتك، قاله الحسن، وقتادة.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس، ومجاهد: قيل لهم: تغزون، فتغنمون بنات الأصفر، فقال الجد بن قيس: ائذن لي، ولا تفتني ببنات الأصفر، والأصفر: رجل من الحبشة، كان له بنات لم يكن في وقتهن أجمل منهن، وكان ببلاد الروم.

                                                                                                                                                                                                                                      ألا في الفتنة سقطوا أي: ألا في الإثم سقطوا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: إن تصبك حسنة تسؤهم أي: غنيمة، وإن تصبك مصيبة أي: هزيمة؛ يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل أي: أخذنا بالحزم إذ لم نخرج.

                                                                                                                                                                                                                                      قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا أي: في اللوح المحفوظ، وقيل: ما أخبرنا به في كتابه من أنا نقتل فنؤجر، أو نقتل فنكون شهداء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين يعني: الغنيمة أو [ ص: 254 ] الشهادة، عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما، واللفظ استفهام، والمعنى: التوبيخ.

                                                                                                                                                                                                                                      ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أي: عقوبة تهلككم، أو بأيدينا أي: يسلطنا عليكم فنقتلكم.

                                                                                                                                                                                                                                      {فتربصوا} : تهدد ووعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: قل أنفقوا طوعا أو كرها الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      لفظه لفظ الأمر، ومعناه: الشرط والجزاء، وروي: أنها نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا مالي، أعينك به، ولا أخرج.

                                                                                                                                                                                                                                      وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله : أخبر تعالى أن كفرهم أحبط أعمالهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس، وقتادة: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن: لا تقديم فيه ولا تأخير؛ والمعنى: ليعذبهم بإخراج الزكاة، والإنفاق في سبيل الله، وهذا اختيار الطبري.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد: المعنى: ليعذبهم بالمصائب في الحياة الدنيا، فهي لهم عذاب، وللمؤمنين ثواب؛ فلا تقديم فيه أيضا ولا تأخير على هذا التأويل.

                                                                                                                                                                                                                                      [وقيل: تعذيبهم بها في الحياة الدنيا: غنيمة المسلمين أموالهم، وسبيهم [ ص: 255 ] أولادهم، واسترقاقهم إياهم، فلا تقديم فيه ولا تأخير على هذا أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن قوله: في الحياة الدنيا ظرف لأفعالهم المتعلقة بأموالهم وأولادهم، والمعنى: أنه يعذبهم بأفعالهم القبيحة في أموالهم وأولادهم].

                                                                                                                                                                                                                                      وتزهق أنفسهم وهم كافرون أي: تخرج على الكفر، [وقوله: وهم كافرون : يجوز أن يكون حالا، ويجوز أن يكون مستأنفا؛ معناه: أنهم مع تعذيبهم بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا وزهق أنفسهم على الكفر صائرون إلى النار]، وقيل: المعنى: يغلظ عليهم المكروه؛ حتى تزهق أنفسهم على الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ويحلفون بالله إنهم لمنكم الآية: هذا في وصف المنافقين، ومعنى {يفرقون} : يخافون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون : (الملجأ) : الحصن، عن قتادة وغيره، ابن عباس: الحرز، وهما سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      و (المغارات) : الغيران، عن ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                                      و (المدخل) : السرب، وهو (مفتعل) من الدخول.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى {يجمحون} : يسرعون، وأصله: مضي المرء على وجهه، ومنه: (الفرس الجموح) : الذي إذا حمل لم يرده اللجام؛ والمعنى: أنهم لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة؛ لولوا إليه مسرعين.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنهم من يلمزك في الصدقات أي: يطعن عليك، عن قتادة، الحسن:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 256 ] يعيبك، و (اللمز) في اللغة: العيب في السر، وروي: أن أعرابيا جافيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا، فجلس، فلم يعطه شيئا، فقال: والله لئن كنت تزعم أن الله أمرك بالعدل؛ فما أراك تعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك، فمن يعدل عليك بعدي؟"؛ فنزلت الآية فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله : جواب {لو} محذوف، والتقدير: لو فعلوا ذلك؛ لكان خيرا لهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية