الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 555 ] القول في تأويل قوله ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ( 4 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن وهب لكم ، أيها الرجال ، نساؤكم شيئا من صدقاتهن ، طيبة بذلك أنفسهن ، فكلوه هنيئا مريئا ، كما : -

8512 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا عمارة ، عن عكرمة : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، قال : المهر .

8513 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثني حرمي بن عمارة قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة ، عن عكرمة ، [ عن عمارة ] في قول الله تبارك وتعالى : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، قال : الصدقات .

8514 - حدثني المثنى قال : حدثني الحماني قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " قال : الأزواج .

8515 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن عبيدة قال : قال لي إبراهيم : أكلت من الهنيء المريء! قلت : ما ذاك؟ قال : امرأتك أعطتك من صداقها .

8516 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : دخل رجل على علقمة وهو يأكل من طعام بين يديه ، من شيء أعطته امرأته من صداقها أو غيره ، فقال له علقمة : ادن فكل من الهنيء المريء! [ ص: 556 ]

8517 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " ، يقول : إذا كان غير إضرار ولا خديعة ، فهو هنيء مريء ، كما قال الله جل ثناؤه .

8518 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، قال : الصداق ، "فكلوه هنيئا مريئا" .

8519 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " بعد أن توجبوه لهن وتحلوه ، "فكلوه هنيئا مريئا" . .

8520 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه قال : زعم حضرمي أن أناسا كانوا يتأثمون أن يراجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته ، فقال الله تبارك وتعالى : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " .

8521 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " ، يقول : ما طابت به نفسا في غير كره أو هوان ، فقد أحل الله لك ذلك أن تأكله هنيئا مريئا .

وقال آخرون : بل عنى بهذا القول أولياء النساء ، فقيل لهم : إن طابت أنفس النساء اللواتي إليكم عصمة نكاحهن ، بصدقاتهن نفسا ، فكلوه هنيئا مريئا .

ذكر من قال ذلك :

8522 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا سيار ، عن أبي صالح في قوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، قال : كان الرجل [ ص: 557 ] إذا زوج ابنته ، عمد إلى صداقها فأخذه ، قال : فنزلت هذه الآية في الأولياء : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " .

قال أبو جعفر وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، التأويل الذي قلنا وأن الآية مخاطب بها الأزواج . لأن افتتاح الآية مبتدأ بذكرهم ، وقوله : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " في سياقه .

وإن قال قائل : فكيف قيل : " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " ، وقد علمت أن معنى الكلام : فإن طابت لكم أنفسهن بشيء؟ وكيف وحدت"النفس" ، والمعنى للجميع؟ وذلك أنه تعالى ذكره قال : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " .

قيل : أما نقل فعل النفوس إلى أصحاب النفوس ، فإن ذلك المستفيض في كلام العرب . من كلامها المعروف : "ضقت بهذا الأمر ذراعا وذرعا""وقررت بهذا الأمر عينا" ، والمعنى! ضاق به ذرعي ، وقرت به عيني ، كما قال الشاعر :


إذا التياز ذو العضلات قلنا : إليك ، إليك"! ضاق بها ذراعا

[ ص: 558 ]

فنقل صفة"الذراع" إلى"رب الذراع" ، ثم أخرج"الذراع" مفسرة لموقع الفعل .

وكذلك وحد"النفس" في قوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا إذ كانت"النفس" مفسرة لموقع الخبر .

وأما توحيد"النفس" من النفوس ، لأنه إنما أراد"الهوى" ، و"الهوى" يكون جماعة ، كما قال الشاعر :


بها جيف الحسرى ، فأما عظامها     فبيض ، وأما جلدها فصليب



وكما قال الآخر :


في حلقكم عظم وقد شجينا

[ ص: 559 ]

وقال بعض نحويي الكوفة : جائز في"النفس" في هذا الموضع الجمع والتوحيد ، " فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا " و"أنفسا" ، و"ضقت به ذراعا" و"ذرعا" و"أذرعا" ، لأنه منسوب إليك وإلى من تخبر عنه ، فاكتفى بالواحد عن الجمع لذلك ، ولم يذهب الوهم إلى أنه ليس بمعنى جمع ، لأن قبله جمعا .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن"النفس" وقع موقع الأسماء التي تأتي بلفظ الواحد ، مؤدية معناه إذا ذكر بلفظ الواحد ، وأنه بمعنى الجمع عن الجميع .

وأما قوله : "هنيئا" ، فإنه مأخوذ من : "هنأت البعير بالقطران" ، إذا جرب فعولج به ، كما قال الشاعر :


متبذلا تبدو محاسنه     يضع الهناء مواضع النقب

[ ص: 560 ]

فكأن معنى قوله : "فكلوه هنيئا مريئا" ، فكلوه دواء شافيا .

يقال منه : "هنأني الطعام ومرأني" ، أي صار لي دواء وعلاجا شافيا ، "وهنئني ومرئني" بالكسر ، وهي قليلة . والذين يقولون هذا القول ، يقولون : "يهنأني ويمرأني" ، والذين يقولون : "هنأني" يقولون : "يهنيني ويمريني" . فإذا أفردوا قالوا : "قد أمرأني هذا الطعام إمراء" . ويقال : "هنأت القوم" إذا علتهم ، سمع من العرب من يقول : "إنما سميت هانئا لتهنأ" ، بمعنى : لتعول وتكفي .

التالي السابق


الخدمات العلمية