الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                            صفحة جزء
                                                                                            12083 - وعن عروة بن الزبير قال : لما مات معاوية تثاقل عبد الله بن الزبير عن طاعة يزيد بن معاوية وأظهر شتمه ، فبلغ ذلك يزيد ، فأقسم لا يؤتى به إلا مغلولا ، وإلا أرسل إليه . فقيل لابن الزبير : ألا نصنع لك أغلالا من فضة تلبس عليها الثوب ، وتبر قسمه ، فالصلح أجمل بك ، قال : فلا أبر الله قسمه ، ثم قال :

                                                                                            ولا ألين لغير الحق أسأله حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

                                                                                            .

                                                                                            ثم قال : والله لضربة بسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل . ثم دعا إلى نفسه ، وأظهر الخلاف ليزيد بن معاوية . فوجه إليه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش أهل الشام ، وأمره بقتال أهل المدينة ، فإذا فرغ من ذلك سار إلى مكة .

                                                                                            قال : فدخل مسلم بن عقبة المدينة ، وهرب منه يومئذ بقايا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبث فيها ، وأسرف في القتل ، ثم خرج منها . فلما كان ببعض الطريق مات واستخلف [ ص: 253 ] حصين بن نمير الكندي ، وقال : يا ابن بردعة الحمار ، احذر خدائع قريش ، ولا تعاملهم إلا بالثقاف ثم بالقطاف . فمضى حصين حتى ورد مكة ، فقاتل بها ابن الزبير أياما ، وضرب ابن الزبير فسطاطا في المسجد ، فكان فيه نساء يسقين الجرحى ويداوينهم ، ويطعمن الجائع ، ويكتمن إليهم المجروح .

                                                                                            فقال حصين : ما يزال يخرج علينا من ذلك الفسطاط أسد كأنما يخرج من عرينه ، فمن يكفينيه ؟ فقال رجل من أهل الشام : أنا . فلما جن الليل وضع شمعة في طرف رمحه ، ثم ضرب فرسه ، ثم طعن الفسطاط فالتهب نارا ، والكعبة يومئذ مؤزرة بالطنافس ، وعلى أعلاها الحبرة ، فطارت الريح باللهب على الكعبة حتى احترقت ، فاحترق فيها يومئذ قرنا الكبش الذي فدي به إسحاق . قال : وبلغ حصين بن نمير موت يزيد بن معاوية ، فهرب حصين بن نمير . فلما مات يزيد بن معاوية دعا مروان بن الحكم إلى نفسه ، فأجابه أهل حمص وأهل الأردن وفلسطين . فوجه إليه ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري في مائة ألف ، فالتقوا بمرج راهط ، ومروان يومئذ في خمسة آلاف من بني أمية ومواليهم وأتباعهم من أهل الشام ، فقال مروان لمولى له يقال له كدة : احمل على أي الطرفين شئت . فقال : كيف أحمل على هؤلاء لكثرتهم ؟ قال : هم بين مكره ومستأجر ، احمل عليهم لا أم لك ، فيكفيك الطعان الناصع هم يكفونك أنفسهم ، إنما هؤلاء عبيد الدينار والدرهم . فحمل عليهم فهزهم ، وقتل الضحاك بن قيس ، وانصدع الجيش . ففي ذلك يقول زفر :


                                                                                            لقد أبقت وقيعة راهط لمروان صرعى بيننا متنائيا     أتنسى سلاحي لا أبا لك إنني أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
                                                                                            وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا

                                                                                            .

                                                                                            وفيه يقول أيضا :


                                                                                            أفي الحق أما بحدل وابن بحدل فيحيا     وأما ابن الزبير فيقتل كذبتم وبيت الله لا
                                                                                            تقتلونه ولما يكن يوم أغر محجل     ولما يكن للمشرفية فيكم شعاع كنور الشمس حين ترحل

                                                                                            .

                                                                                            [ ص: 254 ] قال : ثم مات مروان ، ودعا عبد الملك لنفسه ، وقام فأجابه أهل الشام ، فخطب على المنبر وقال : من لابن الزبير منكم ؟ فقال الحجاج : أنا يا أمير المؤمنين . فأسكته ، ثم عاد ، فأسكته ، ثم عاد فقال : أنا يا أمير المؤمنين ، فإني رأيت في النوم أني انتزعت جبته فلبستها . فعقد له في الجيش إلى مكة حتى وردها على ابن الزبير ، فقاتله بها . فقال ابن الزبير لأهل مكة : احفظوا هذين الجبلين ، فإنكم لن تزالوا بخير أعزة ما لم يظهروا عليهما . فلم يلبسوا أن ظهر الحجاج ومن معه على أبي قبيس ، ونصب عليه المنجنيق ، فكان يرمي به ابن الزبير ومن معه في المسجد . فلما كانت الغداة التي قتل فيها ابن الزبير ، دخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر ، وهي يومئذ ابنة مائة سنة لم يسقط لها سن ولم يفقد لها بصر ، فقالت لابنها : يا عبد الله ، ما فعلت في حزبك ؟ قال : بلغوا مكان كذا وكذا . قال : وضحك ابن الزبير فقال : إن في الموت لراحة . قالت : يا بني ، لعلك تتمناه لي ؟ ما أحب أن أموت حتى آتي على أحد طرفيك ، إما أن تملك فتقر بذلك عيني ، وإما أن تقتل فأحتسبك . قال : ثم ودعها . قالت له : يا بني ، إياك أن تعطي خصلة من دينك مخافة القتل .

                                                                                            وخرج عنها ، ودخل المسجد ، وقد جعل مصراعين على الحجر الأسود يتقي بهما أن يصيبه المنجنيق ، وأتى ابن الزبير آت وهو جالس عند الحجر الأسود فقال : ألا نفتح لك باب الكعبة فتصعد فيها ؟ فنظر إليه عبد الله ثم قال له : من كل شيء تحفظ أخاك إلا من نفسه - يعني أجله - وهل للكعبة حرمة ليست لهذا المكان ؟ والله لو وجدوكم متعلقين بأستار الكعبة لقتلوكم . فقيل له : ألا تكلمهم في الصلح ؟ قال : أوحين صلح هذا ؟ والله لو وجدوكم فيها لذبحوكم جميعا ، وأنشد يقول :

                                                                                            ولست بمبتاع الحياة بسبة ولا مرتق من خشية الموت سلما     أنافس سهما إنه غير بارح ملاقي المنايا أي حرف تيمما



                                                                                            ثم أقبل على آل الزبير يعظهم ويقول : ليكن أحدكم سيفه كما يكن وجهه لا ينكسر ، فيدفع عن نفسه بيده كأنه امرأة ، والله ما لقيت زحفا قط إلا في الرعيل الأول ، ولا ألمت جرحا قط إلا أن ألم الدواء .

                                                                                            قال : فبينا هم كذلك إذ دخل عليهم [ ص: 255 ] من باب بني جمح فيهم أسود ، قال : من هؤلاء ؟ قيل : أهل حمص . فحمل عليهم ومعه سيفان فأول من لقيه الأسود فضربه بسيفه حتى أطن رجله ، فقال له الأسود : أخ يا ابن الزانية . فقال له ابن الزبير : اخسأ يا ابن حام أسماء زانية ؟ ثم أخرجهم من المسجد ، وانصرف ، فإذا قوم قد دخلوا من باب بني سهم ، فقال : من هؤلاء ؟ قيل : أهل الأردن . فحمل عليهم وهو يقول :

                                                                                            لا عهد لي بغارة مثل السيل     لا ينجلي غبارها حتى الليل .


                                                                                            فأخرجهم من المسجد ، فإذا بقوم قد دخلوا من باب بني مخزوم . فحمل عليهم وهو يقول :

                                                                                            لو كان قرني واحدا كفيته

                                                                                            قال : وعلى ظهر المسجد من أعوانه من يرمي عدوه بالآجر وغيره ، فحمل عليهم ، فأصابته آجرة في مفرقه حتى فلقت رأسه ، فوقف وهو يقول : ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا     ولكن على أقدامنا تقطر الدما
                                                                                            .

                                                                                            قال : ثم وقع ، فأكب عليه موليان له وهما يقولان :

                                                                                            العبد يحمي ربه ويحتمي

                                                                                            قال : ثم سير إليه فحز رأسه .

                                                                                            رواه الطبراني ، وفيه عبد الملك بن عبد الرحمن الذماري ، وثقه ابن حبان وغيره ، وضعفه أبو زرعة وغيره .

                                                                                            التالي السابق


                                                                                            الخدمات العلمية