الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم

نفى تعالى أن يكون القرآن من قول شاعر كما زعمت قريش، ونصب "قليلا" بفعل [ ص: 397 ] مضمر يدل عليه "تؤمنون"، و"ما" يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية ويتصف بالقلة إما الإيمان وإما العدد الذي يؤمنون، فعلى اتصاف إيمانهم بالقلة فهو الإيمان اللغوي; لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا; إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم صواب، ثم نفى تعالى أن يكون "القرآن" قول كاهن كما زعم بعضهم. وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والحسن ، والجحدري: "قليلا ما يؤمنون" و"قليلا ما يذكرون" بالياء فيهما، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، ورجح أبو عمرو قراءة التاء من فوق بقوله: "فما منكم"، وفي مصحف أبي بن كعب : "ما تتذكرون" بتاءين. و"تنزيل" رفع بالابتداء، أي: هو تنزيل. ثم أخبر تعالى أن محمدا لو تقول علينا شيئا لعاقبه بما ذكر، والتقول أن يقول الإنسان عن آخر: أنه قال شيئا لم يفعله، وقرأ ذكوان وابنه محمد "ولو يقول علينا" بالياء وضم القاف، وهذه القراءة معرضة بما صرحت به قراءة الجمهور، ويبين التعريض قوله تعالى: علينا بعض الأقاويل .

وقوله تعالى: لأخذنا منه باليمين اختلف في معناه، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "باليمين": بالقوة، ومعناه: لنلنا عقابه بقوة منا، أو يكون المعنى: لنزعنا منه قوته، وقال آخرون: هي عبارة عن الهوان، كما يقال لمن يسجن أو يقام لعقوبة: قد أخذ بيده وبيمينه.

و"الوتين" نياط القلب، قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، ومنه قول الشماخ:


إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين



[ ص: 398 ] فمعنى الآية: لأذهبنا حياته معجلا. و"الحاجز": المانع، وجمع "حاجزين" على معنى أحد; لأنه يقع على الجمع، ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام: "ولم تحل الغنائم لأحد سوى الرءوس قبلكم".

والضمير في قوله تعالى: "وإنه لتذكرة" عائد على القرآن، وقيل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وعيد، وكونه حسرة على الكافرين هو من حيث كفروا ويرون من آمن به ينعم وهم يعذبون.

وقوله تعالى: وإنه لحق اليقين ، ذهب الكوفيون إلى أنها إضافة الشيء إلى نفسه، كدار الآخرة ومسجد الجامع، وذهب البصريون والحذاق إلى أن الحق مضاف إلى الأبلغ من وجوهه، وقال المبرد : إنما هو كقولك: عين اليقين ومحض اليقين.

ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتسبيح باسمه العظيم، وفي ضمن ذلك الاستمرار على رسالته، والمضي لأدائها وإبلاغها وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: "اجعلوها في ركوعكم" واستحب التزام ذلك جماعة من العلماء، وكره مالك لزوم ذلك لئلا يعد فرضا واجبا.

تم تفسير سورة [الحاقة] والحمد لله رب العالمين

التالي السابق


الخدمات العلمية