الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكان خروج رستم من المدائن في ستين ألف متبوع ، ومسيره عن ساباط في مائة ألف وعشرين ألف متبوع ، وقيل غير ذلك .

ولما فصل رستم عن ساباط كتب إلى أخيه البنذوان : أما بعد فرموا حصونكم وأعدوا واستعدوا ، فكأنكم بالعرب قد قارعوكم عن أرضكم وأبنائكم ، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود سعودهم نحوسا ، فإن السمكة قد كدرت الماء ، وإن النعائم قد حسنت ، والزهرة قد حسنت ، واعتدل الميزان ، وذهب بهرام ، ولا أرى هؤلاء [ ص: 295 ] القوم إلا سيظهرون علينا ، ويستولون على ما يلينا ، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال : لتسيرن أو لأسيرن بنفسي .

ولقي جابان رستم على قنطرة ساباط ، وكانا منجمين ، فشكا إليه وقال له : ألا ترى ما أرى ؟ فقال له رستم : أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ، ولا أجد بدا من الانقياد . ثم سار فنزل بكوثى ، فأتي برجل من العرب ، فقال له : ما جاء بكم وماذا تطلبون ؟ فقال : جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا . قال رستم : فإن قتلتم قبل ذلك ! قال : من قتل منا دخل الجنة ، ومن بقي منا أنجزه الله ما وعده ، فنحن على يقين .

فقال رستم : قد وضعنا إذن في أيديكم ! فقال : أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها ، فلا يغرنك من ترى حولك ، فإنك لست تجاول الإنس إنما تجاول القدر . فضرب عنقه ، ثم سار فنزل البرس ، فغصب أصحابه الناس أبناءهم وأموالهم ووقعوا على النساء وشربوا الخمور ، فضج أهلها إلى رستم فقال : يا معشر فارس ، والله لقد صدق العربي ، والله ما أسلمنا إلا أعمالنا ، والله إن العرب مع هؤلاء وهم لهم حرب أحسن سيرة منكم ، إن الله كان ينصركم على العدو ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة ، وكف الظلم والوفاء والإحسان ، فإذا تغيرتم فلا يرى الله إلا مغيرا ما بكم ، وما أنا بآمن من أن ينزع الله سلطانه منكم . وأتي ببعض من يشكى منه فضرب عنقه .

ثم سار حتى نزل الحيرة ، ودعا أهلها وتهددهم وهم بهم ، فقال له ابن بقيلة : لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا ، وتلومنا على الدفع عن أنفسنا .

ولما نزل رستم بالنجف رأى كأن ملكا نزل من السماء ومعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمر ، فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ، ثم دفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر ، فأصبح رستم حزينا .

وأرسل سعد السرايا ورستم بالنجف ، والجالينوس بين النجف والسيلحين ، فطافت في السواد ، فبعث سوادا وحميضة في مائة مائة ، فأغاروا على النهرين ، وبلغ رستم الخبر فأرسل إليهم خيلا ، وسمع سعد أن خيله قد وغلت فأرسل عاصم بن عمرو وجابرا [ ص: 296 ] الأسدي في آثارهم ، فلقيهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلصوا ما بأيديهم ، فلما رأته الفرس هربوا ورجع المسلمون بالغنائم .

وأرسل سعد عمرو بن معدي كرب وطليحة الأسدي طليعة ، فسارا في عشرة ، فلم يسيروا إلا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطفوف قد ملئوها ، فرجع عمرو ومن معه ، وأبى طليحة إلا التقدم ، فقالوا له : أنت رجل في نفسك غدر ، ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن ، فارجع معنا . فأبى ، فرجعوا إلى سعد فأخبروه بقرب القوم .

ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم ، وبات فيه يجوسه ويتوسم ، فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه ، ثم هتك على آخر بيته وحل فرسه ، ثم فعل بآخر كذلك ، ثم خرج يعدو به فرسه ، ونذر به الناس فركبوا في طلبه ، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة ، ثم آخر فقتله ، ثم لحق به ثالث فرأى مصرع صاحبيه ، وهما ابنا عمه ، فازداد حنقا ، فلحق طليحة ، فكر عليه طليحة وأسره ، ولحقه الناس ، فرأوا فارسي الجند قد قتلا وأسر الثالث وقد شارف طليحة عسكره ، فأحجموا عنه ، ودخل طليحة على سعد ومعه الفارسي وأخبره الخبر ، فسأل الترجمان الفارسي ، فطلب الأمان ، فآمنه سعد ، قال : أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي ، باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن ، وسمعت بالأبطال ، ولم أسمع بمثل هذا ، أن رجلا قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفا ، يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة ، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند ، وهتك عليهم البيوت ، فلما أدركناه قتل الأول وهو يعد بألف فارس ، ثم الثاني وهو نظيره ، ثم أدركته أنا ولا أظن أنني خلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين ، فرأيت الموت واستؤسرت . ثم أخبره عن الفرس ، وأسلم ولزم طليحة ، وكان من أهل البلاء بالقادسية ، وسماه سعد مسلما .

ثم سار رستم وقدم الجالينوس وذا الحاجب ، فنزل الجالينوس بحيال زهرة من دون القنطرة ، ونزل ذو الحاجب بطيزناباذ ، ونزل رستم بالخرارة ، ثم سار رستم فنزل بالقادسية ، وكان بين مسيره من المدائن ووصوله القادسية أربعة أشهر ، لا يقدم رجاء أن [ ص: 297 ] يضجروا بمكانهم فينصرفوا ، وخاف أن يلقى ما لقي من قبله ، وطاولهم لولا ما جعل الملك يستعجله وينهضه ويقدمه ، حتى أقحمه .

وكان عمر قد كتب إلى سعد يأمره بالصبر والمطاولة أيضا ، فأعد للمطاولة .

فلما وصل رستم القادسية وقف على العتيق بحيال عسكر سعد ونزل الناس ، فما زالوا يتلاحقون حتى أعتموا من كثرتهم ، والمسلمون ممسكون عنهم . وكان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلا ، منها فيل سابور الأبيض ، وكانت الفيلة تألفه ، فجعل في القلب ثمانية عشر فيلا ، وفي المجنبتين خمسة عشر فيلا .

فلما أصبح رستم من تلك الليلة ركب وساير العتيق نحو خفان ، حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين ، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة ، فتأمل المسلمين ووقف على موضع يشرف منه عليهم ، ووقف على القنطرة ، وأرسل إلى زهرة فواقفه ، فأراده على أن يصالحه ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه من غير أن يصرح له بذلك ، بل يقول له : كنتم جيراننا ، وكنا نحسن إليكم ونحفظكم . ويخبره عن صنيعهم مع العرب .

فقال له زهرة : ليس أمرنا أمر أولئك ، إننا لم نأتكم لطلب الدنيا ، إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة ، وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولا ، فدعانا إلى ربه ، فأجبناه ، فقال لرسوله : إني سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني ، فأنا منتقم به منهم ، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به ، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل ، ولا يعتصم به أحد إلا عز .

فقال له رستم : ما هو ؟ قال : أما عموده الذي لا يصلح إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . قال : وأي شيء أيضا ؟ قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله ، والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم .

قال : ما أحسن هذا ! ثم قال رستم : أرأيت إن أجبت إلى هذا ومعي قومي ، كيف يكون أمركم ، أترجعون ؟ قال : إي والله . قال : صدقتني ، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة ، كانوا يقولون : إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم . فقال زهرة : نحن خير الناس للناس ، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون ، بل نطيع الله في السفلة ، ولا يضرنا من عصى الله فينا .

فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فأنفوا . فأرسل إلى سعد : أن [ ص: 298 ] ابعث إلينا رجلا نكلمه ويكلمنا . فدعا سعد جماعة ليرسلهم إليهم . فقال له ربعي بن عامر : متى نأتهم جميعا يروا أنا قد احتفلنا بهم ، فلا تزدهم على رجل .

فأرسله وحده ، فسار إليهم ، فحبسوه على القنطرة . وأعلم رستم بمجيئه فأظهر زينته ، وجلس على سرير من ذهب ، وبسط البسط والنمارق والوسائد المنسوجة بالذهب ، وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ، ورمحه مشدود بعصب وقد ، فلما انتهى إلى البسط قيل له : انزل ، فحمل فرسه عليها ونزل ، وربطها بوسادتين شقهما ، وأدخل الحبل فيهما ، فلم ينهوه وأروه التهاون ، وعليه درع ، وأخذ عباءة بعيره فتدرعها وشدها على وسطه . فقالوا : ضع سلاحك . فقال : لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم ، أنتم دعوتموني . فأخبروا رستم ، فقال : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه ، فلم يدع لهم نمرقا ولا بساطا إلا أفسده وهتكه ، فلما دنا من رستم جلس على الأرض ، وركز رمحه على البسط ، فقيل له : ما حملك على هذا ؟ قال : إنا لا نستحب القعود على زينتكم . فقال له ترجمان رستم ، واسمه عبود من أهل الحيرة : ما جاء بكم ؟ قال : الله جاء بنا ، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأرسلنا بدينه إلى خلقه ، فمن قبله قبلنا منه ، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا ، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر . فقال رستم : قد سمعنا قولكم ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه ؟ قال : نعم ، وإن مما سن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث ، فنحن مترددون عنكم ثلاثا ، فانظر في أمرك ، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل : إما الإسلام وندعك وأرضك ، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك ، وإن احتجت إلينا نصرناك ، أو المنابذة في اليوم الرابع ، إلا أن تبدأ بنا ، أنا كفيل بذلك عن أصحابي . قال أسيدهم أنت ؟ قال : لا ، ولكن المسلمين كالجسد الواحد ، بعضهم من بعض ، يجير أدناهم على أعلاهم .

فخلا رستم برؤساء قومه فقال : هل رأيتم كلاما قط أعز وأوضح من كلام هذا الرجل ؟ فقالوا : معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب ! أما ترى إلى ثيابه ؟ فقال : ويحكم ! لا تنظروا إلى الثياب ، ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة ، إن العرب تستخف باللباس وتصون الأحساب ، ليسوا مثلكم .

فلما كان من الغد أرسل رستم إلى سعد : أن ابعث إلينا ذلك الرجل . فبعث إليهم حذيفة بن محصن ، فأقبل في نحو من ذلك الزي ، ولم ينزل عن فرسه ، ووقف على [ ص: 299 ] رستم راكبا . قال له : انزل . قال : لا أفعل . فقال له : ما جاء بك ولم يجئ الأول ؟ قال له : إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء ، وهذه نوبتي . فقال : ما جاء بكم ؟ فأجابه مثل الأول . فقال رستم : أو الموادعة إلى يوم ما ؟ قال : نعم ، ثلاثا من أمس . فرده وأقبل على أصحابه وقال : ويحكم ! أما ترون ما أرى ؟ جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا ، وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا ، وجاء هذا اليوم فوقف علينا وهو في يمن الطائر ، يقوم على أرضنا دوننا .

فلما كان الغد أرسل : ابعثوا إلينا رجلا . فبعث المغيرة بن شعبة ، فأقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ، وبسطهم على غلوة ، لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها ، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره ، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه ، وقال : قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوما أسفه منكم ، إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضا ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ، فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد ، وإني لم آتكم ولكن دعوتموني ، اليوم علمت أنكم مغلبون ، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول . فقالت السفلة : صدق والله العربي . وقالت الدهاقين : والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه ، قاتل الله أولينا حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة !

ثم تكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وقال : لم نزل متمكنين في البلاد ، ظاهرين على الأعداء ، أشرافا في الأمم ، فليس لأحد مثل عزنا وسلطاننا ، ننصر عليهم ولا ينصرون علينا ، إلا اليوم واليومين والشهر للذنوب ، فإذا انتقم الله منا ورضي علينا رد لنا الكرة على عدونا ، ولم يكن في الأمم أمة أصغر عندنا أمرا منكم ، كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة لا نراكم شيئا ، وكنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم ، فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم ، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا الجهد في بلادكم ، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم ، وآمر لكل منكم بوقر تمر وتنصرفون عنا ، فإني أشتهي أن أقتلكم .

[ ص: 300 ] فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : إن الله خالق كل شيء ورازقه ، فمن صنع شيئا فإنما هو يصنعه ، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك فنحن نعرفه ، فالله صنعه بكم ووضعه فيكم ، وهو له دونكم ، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والاختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره ، والله ابتلانا به والدنيا دول ، ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ، ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ، ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم ، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر لكان عظيم ما ابتلينا به مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ، إن الله - تبارك وتعالى - بعث فينا رسولا . ثم ذكر مثل ما تقدم من ذكر الإسلام والجزية والقتال ، وقال له : وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم ، فقالوا : لا صبر لنا عنه .

فقال رستم : إذا تموتون دونها . فقال المغيرة : يدخل من قتل منا الجنة ومن قتل منكم النار ، ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم .

فاستشاط رستم غضبا ثم حلف أن لا يرتفع الصبح غدا حتى نقتلكم أجمعين . وانصرف المغيرة وخلص رستم بأهل فارس وقال : أين هؤلاء منكم ! هؤلاء والله الرجال ، صادقين كانوا أم كاذبين ، والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا ، فما قوم أبلغ لما أرادوا منهم ، ولئن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شيء ! فلجوا وتجلدوا .

فأرسل رستم مع المغيرة وقال له : إذا قطع القنطرة فأعلمه أن عينه تفقأ غدا ، فأعلمه الرسول ذلك : فقال المغيرة : بشرتني بخير وأجر ، ولولا أن أجاهد بعد هذا اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت . فرجع إلى رستم فأخبره . فقال : أطيعوني يا أهل فارس ، إني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها .

ثم أرسل إليه سعد بقية ذوي الرأي فساروا ، وكانوا ثلاثة ، إلى رستم فقالوا له : إن أميرنا يدعوك إلى ما هو خير لنا ولك ، العافية أن تقبل ما دعاك الله إليه ، ونرجع إلى أرضنا ، وترجع إلى أرضك ، وداركم لكم وأمركم فيكم ، وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا ، وكنا عونا لكم على أحد إن أرادكم ، فاتق الله ولا يكونن هلاك قومك على يدك ، وليس بينك وبين أن تغبط بهذا الأمر إلا أن تدخل فيه ، وتطرد به الشيطان عنك .

‏‏‏‏ [ ص: 301 ] فقال لهم : إن الأمثال أوضح من كثير من الكلام ، إنكم كنتم أهل جهد وقشف لا تنتصفون ولا تمتنعون فلم نسئ جواركم ، وكنا نميركم ونحسن إليكم ، فلما طعمتم طعامنا وشربتم شرابنا وصفتم لقومكم ذلك ، ودعوتموهم ثم أتيتمونا ، وإنما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأى فيه ثعلبا ، فقال : وما ثعلب ! فانطلق الثعلب ، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم ، فلما اجتمعوا إليه سد صاحب الكرم النقب الذي كن يدخلن منه فقتلهن ; فقد علمت أن الذي حملكم على هذا : الحرص والجهد ، فارجعوا ونحن نميركم ، فإني لا أشتهي أن أقتلكم ، ومثلكم أيضا كالذباب يرى العسل فيقول : من يوصلني إليه وله درهمان ؟ فإذا دخله غرق ونشب ، فيقول : من يخرجني وله أربعة دراهم ؟ وقال أيضا : إن رجلا وضع سلة وجعل طعاما فيها ، فأتى الجرذان فخرقن السلة ، فدخلن فيها ، فأراد سدها فقيل له : لا تفعل إذن يخرقنه ، لكن انقب بحياله ، ثم اجعل ( فيها ) قصبة مجوفة ، فإذا دخلها الجرذان وخرجن منها فاقتل كل ما خرج منها ، وقد سددت عليكم ( فإياكم ) أن تقتحموا القصبة فلا يخرج منها أحد إلا قتل ، فما دعاكم إلى ما صنعتم ولا أرى عددا ولا عدة ! .

قال : فتكلم القوم ، وذكروا سوء حالهم ، وما من الله به عليهم من إرسال رسوله ، واختلافهم أولا ، ثم اجتماعهم على الإسلام ، وما أمرهم به من الجهاد ، وقالوا : وأما ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك ، ولكن إنما مثلكم كمثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر ، وأجرى إليها الأنهار ، وزينها بالقصور ، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جنانها ، فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب ، فأطال إمهالهم فلم يستحيوا ، فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها ، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس وإن أقاموا فيها صاروا خولا لهؤلاء فيسومونهم الخسف أبدا ; والله لو لم يكن ما نقول حقا ، ولم يكن إلا الدنيا ، لما صبرنا عن الذي نحن فيه من لذيذ عيشكم ، ورأينا من بزرجكم ، ولقارعناكم عليه ! .

فقال رستم : أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم ؟ فقالوا : بل اعبروا إلينا .

ورجعوا من عنده عشيا ، وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم ، وأرسل إليهم : شأنكم والعبور ، فأرادوا القنطرة فقال : لا ولا كرامة ! أما شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم . فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقا ، واستتم بعدما ارتفع النهار .

[ ص: 302 ] ورأى رستم من الليل كأن ملكا نزل من السماء ، فأخذ قسي أصحابه ، فختم عليها ، ثم صعد بها إلى السماء ، فاستيقظ مهموما واستدعى خاصته ، فقصها عليهم وقال : إن الله ليعظنا لو اتعظنا . ولما ركب رستم ليعبر كان عليه درعان ومغفر ، وأخذ سلاحه ووثب ، فإذا هو على فرسه لم يضع رجله في الركاب ، وقال : غدا ندقهم دقا ! فقال له رجل : إن شاء الله . فقال : وإن لم يشأ ! ثم قال : إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد - يعني كسرى - وإني أخشى أن تكون هذه سنة القرود !

فإنما قال هذه الأشياء توهينا للمسلمين عند الفرس ، وإلا فالمشهور عنه الخوف من المسلمين ، وقد أظهر ذلك إلى من يثق به .

التالي السابق


الخدمات العلمية