الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر قتال الخوارج

قيل : لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجلا [ ص: 691 ] يسوق بامرأة على حمار ، فدعوه فانتهروه ، فأفزعوه وقالوا له : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له : أفزعناك ؟ قال : نعم . قالوا : لا روع عليك ، حدثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنفعنا به . فقال : حدثني أبي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه ، يمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا ، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا " . قالوا : لهذا الحديث سألناك ، فما تقول في أبي بكر وعمر ؟ فأثنى عليهما خيرا . قالوا : ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها ؟ قال : إنه كان محقا في أولها وفي آخرها . قالوا : فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده ؟ قال : إنه أعلم بالله منكم ، وأشد توقيا على دينه ، وأنفذ بصيرة . فقالوا : إنك تتبع الهوى ، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها ، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا .

فأخذوه وكتفوه ، ثم أقبلوا به وبامرأته ، وهي حبلى ( متم ) ، حتى نزلوا تحت نخل مواقير ، فسقطت منه رطبة ، فأخذها أحدهم فتركها في فيه ، فقال آخر : أخذتها بغير حلها وبغير ثمن ، فألقاها . ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة ، فضربه أحدهم بسيفه ، فقالوا : هذا فساد في الأرض . فلقي صاحب الخنزير فأرضاه ، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال : لئن كنتم صادقين فيما أرى ، فما علي منكم من بأس ، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ، ولقد آمنتموني قلتم : لا روع عليك . فأضجعوه فذبحوه ، فسال دمه في الماء ، وأقبلوا إلى المرأة فقالت : أنا امرأة ، ألا تتقون الله ! فبقروا بطنها ، وقتلوا [ ص: 692 ] ثلاث نسوة من طيء ، وقتلوا أم سنان الصيداوية .

فلما بلغ عليا قتلهم عبد الله بن خباب ، واعتراضهم الناس ، بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم ، وينظر ما بلغه عنهم ، ويكتب به إليه ولا يكتمه . فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه ، وأتى عليا الخبر والناس معه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا ؟ سر بنا إلى القوم ، فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام .

وقام إليه الأشعث بن قيس ، وكلمه بمثل ذلك ، وكان الناس يرون أن الأشعث يرى رأيهم ; لأنه كان يقول يوم صفين : أنصفنا قوم يدعون إلى كتاب الله . فلما قال هذه المقالة علم الناس أنه لم يكن يرى رأيهم .

فأجمع علي على ذلك ، وخرج فعبر الجسر وسار إليهم ، فلقيه منجم في مسيره ، فأشار عليه أن يسير وقتا من النهار ، فقال له : إن أنت سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضرا شديدا . فخالفه علي ، وسار في الوقت الذي نهاه عنه ، فلما فرغ من أهل النهر حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمر بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون شيئا : سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر . وكان المنجم مسافر بن عفيف الأزدي .

فأرسل علي إلى أهل النهر : أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم ، ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل المغرب ، فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم . فقالوا : كلنا قتلهم ، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم . وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة ، فقال لهم : عباد الله ، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم ، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه ، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم ، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر ، تشهدون علينا بالشرك ، وتسفكون دماء المسلمين ! فقال لهم عبد الله بن شجرة السلمي : إن الحق قد أضاء لنا ، فلسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر ، فقال : ما نعلمه [ فينا ] غير صاحبنا ، فهل تعلمونه فيكم ؟ قالوا : لا . قال : نشدتكم الله في أنفسكم أن [ ص: 693 ] تهلكوها ، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم .

وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال : عباد الله ، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ، أليست بيننا وبينكم فرقة ، فعلام تقاتلوننا ؟ فقالوا : إنا لو تابعناكم اليوم حكمتم غدا . قال : فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل .

وأتاهم علي فقال : أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة ! وصدها عن الحق الهوى ، وطمع بها النزق ، وأصبحت في الخطب العظيم ! إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا الوادي وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين ، ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة ، ونبأتكم أنها مكيدة ، وأن القوم ليسوا بأصحاب دين ، فعصيتموني ، فلما فعلت شرطت واستوثقت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة ، فنبذنا أمرهما ، ونحن على الأمر الأول ؟ فمن أين أتيتم ؟ فقالوا : إنا حكمنا ، فلما حكمنا ، أثمنا ، وكنا بذلك كافرين وقد تبنا ، فإن تبت فنحن معك ومنك ، وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء . فقال علي : أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر ، أبعد إيماني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر ! لقد ضللت إذا ، وما أنا من المهتدين . ثم انصرف عنهم .

وقيل : إنه كان من كلامه لهم : يا هؤلاء ، إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم بدأتموها وسألتموها ، وأنا لها كاره ، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة ودهنا فأبيتم علي إباء المخالفين ، وعندتم عنود النكداء العاصين ، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم ، ( رأي معاشر والله ، أخفاء الهام ، سفهاء الأحلام ، فلم آت ) ، لا أبا [ ص: 694 ] لكم ، هجرا ! والله ما ختلتهم عن أموركم ، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم ، ولا أوطأتكم عشوة ، ولا ( دنيت لكم الضراء ) ، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا ، فأجمع رأي ملأكم [ على ] أن اختاروا رجلين ، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه ، فتاها ، فتركا الحق وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، والثقة في أيدينا حين خالفا سبيل الحق ، وأتيا بما لا يعرف ، فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا ، وتضعون أسيافكم على عواتقكم ، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم ؟ إن هذا لهو الخسران المبين ، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها ! فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام ؟

فتنادوا : لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الله ، ( الرواح الرواح إلى الجنة ! فعاد علي عنهم ) .

ثم إن الخوارج قصدوا جسر النهر ، وكانوا غربه ، فقال لعلي أصحابه : إنهم قد عبروا النهر . فقال : لن يعبروا . فأرسلوا طليعة ، فعاد وأخبرهم أنهم عبروا النهر ، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر ، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم ، فعاد فقال : إنهم قد عبروا النهر . فقال علي : والله ما عبروه ، وإن مصارعهم لدون الجسر ، ووالله لا يقتل منكم عشرة ، ولا يسلم منهم عشرة ! وتقدم علي إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه ، وكان الناس قد شكوا في قوله ، وارتاب به بعضهم ، فلما رأوا الخوارج لم يعبروا كبروا وأخبروا عليا بحالهم ، فقال : والله ما كذبت ولا كذبت ! ثم إنه عبأ أصحابه ، فجعل على ميمنته حجر بن عدي ، وعلى ميسرته شبث بن ربعي ، أو معقل بن قيس الرياحي ، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري ، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري ، وعلى أهل المدينة - وهم سبعمائة أو ثمانمائة - قيس بن سعد بن عبادة ، وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي ، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي ، وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير السعدي .

وأعطى علي أبا أيوب الأنصاري راية الأمان ، فناداهم أبو أيوب فقال : من جاء [ ص: 695 ] تحت هذه الراية فهو آمن ، ومن لم يقتل ولم يستعرض ، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو المدائن ، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن ، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم .

فقال فروة بن نوفل الأشجعي : والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليا ، أرى أن أنصرف حتى يتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه . فانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة . وخرجت طائفة أخرى متفرقين ، فنزلوا الكوفة ، وخرج إلى علي نحو مائة ، وكانوا أربعة آلاف ، فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة ، ( فزحفوا إلى علي ) ، وكان علي قد قال لأصحابه : كفوا عنهم حتى يبدأوكم . فتنادوا : الرواح إلى الجنة ! وحملوا على الناس ، فافترقت خيل علي فرقتين : فرقة نحو الميمنة ، وفرقة نحو الميسرة ، واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل ، عطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة ، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف ، فما لبثوا أن أناموهم . فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه : أن انزلوا ! فذهبوا لينزلوا ، فلم يلبثوا أن حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي ، وجاءتهم الخيل من نحو علي ، فأهلكوا في ساعة ، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا .

وجاء أبو أيوب الأنصاري إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين قتلت زيد بن حصين الطائي ، طعنته في صدره [ حتى ] خرج السنان من ظهره ، وقلت له : أبشر يا عدو الله بالنار . فقال : ستعلم غدا أينا أولى بها صليا . فقال له علي : هو أولى بها صليا . وجاءه هانئ بن خطاب الأزدي ، وزياد بن خصفة يحتجان في قتل عبد الله بن وهب ، فقال : كيف صنعتما ؟ قالا : لما رأيناه عرفناه ، فابتدرناه وطعناه برمحينا . فقال : كلاكما قاتل .

وحمل جيش بن ربيعة الكناني على حرقوص بن زهير فقتله ، وحمل عبد الله بن زحر الخولاني على عبد الله بن شجرة السلمي فقتله ، ووقع شريح بن أوفى إلى جانب جدار ، فقاتل عليه ، وكان ( جل من يقاتله همدان ، فقال ) :

[ ص: 696 ]

قد علمت جارية عبسيه ناعمة في أهلها مكفيه     أني سأحمي ثلمتي العشيه


فحمل عليه قيس أيضا فقتله ، فقال الناس :

القرم يحمي شوله معقولا

فحمل عليه قيس أيضا فقتله ، فقال الناس :


اقتتلت همدان يوما ورجل     اقتتلوا من غدوة حتى الأصل
ففتح الله لهمدان الرجل



التالي السابق


الخدمات العلمية