الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر بناء مدينة بغداذ

فيها ابتدأ المنصور في بناء مدينة بغداذ .

وسبب ذلك أنه كان قد ابتنى الهاشمية بنواحي الكوفة ، فلما ثارت الراوندية فيها كره سكانها لذلك ولجوار أهل الكوفة أيضا ، فإنه كان لا يأمن أهلها على نفسه ، وكانوا قد أفسدوا جنده . فخرج بنفسه يرتاد له موضعا يسكنه هو وجنده ، فانحدر إلى جرجرايا ، ثم أصعد إلى الموصل ، وسار نحو الجبل في طلب منزل يبنى به .

وكان قد تخلف بعض جنده بالمدائن لرمد لحقه ، فسأله الطبيب الذي يعالجه عن سبب حركة المنصور ، فأخبره ، فقال : إنا نجد في كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبني مدينة بين دجلة والصراة تدعى الزوراء ، فإذا أسسها وبنى بعضها أتاه فتق من الحجاز ، فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق ، ثم أتاه فتق من البصرة أعظم منه فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ، ثم يعود إلى بنائها فيتمه ، ثم يعمر عمرا طويلا ، ويبقى الملك في عقبه .

فقدم ذلك الجندي إلى عسكر المنصور وهو بنواحي الجبل فأخبره الخبر ، فرجع [ ص: 133 ] وقال : إني أنا والله كنت أدعى مقلاصا وأنا صبي ثم زال عني ، وصار حتى نزل الدير الذي حذاء قصره المعروف بالخلد ، ودعا بصاحب الدير وبالبطريق صاحب رحا البطريق ، وصاحب بغداذ ، وصاحب المخرم ، وصاحب بستان النفس ، وصاحب العتيقة فسألهم عن مواضعهم ، وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام ، فأخبره كل منهم بما عنده ، ووقع اختيارهم على صاحب بغداذ ، فأحضره وشاوره .

فقال : يا أمير المؤمنين سألتني عن هذه الأمكنة وما تختار منها ، وإني أرى أن تنزل أربعة طساسيج في الجانب الغربي طسوجين ، وهما بقطربل وبادوريا ، وفي الجانب الشرقي طسوجين وهما نهر بوق وكلواذى ، فيكون بين نخل وقرب الماء ، وإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته كان في الطسوج الآخر العمارات .

وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة ، ( تجيئك الميرة في السفن من الشام والرقة ، والغرب في طوائف مصر ، وتجيئك الميرة من الصين ، والهند ، والبصرة ، وواسط ، وديار بكر ، والروم ، والموصل ، وغيرها في دجلة ، وتجيئك الميرة من إرمينية وما اتصل بها في تامرا حتى يتصل بالزاب ، فأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة ، فإذا قطعت الجسر ، وأخربت القنطرة لم يصل إليك ، ودجلة والفرات والصراة خنادق هذه المدينة ، وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والموصل والسواد ، وأنت قريب من البر والبحر والجبل .

فازداد المنصور عزما على النزول في ذلك الموضع .

وقيل : إن المنصور لما أراد أن يبني مدينة بغداذ رأى راهبا فناداه ، فأجابه ، فقال : هل تجدون في كتبكم أنه يبنى هاهنا مدينة ؟ قال : نعم يبنيها مقلاص . قال : فأنا كنت أدعى مقلاصا في حداثتي . قال : فإذا أنت صاحبها .

فابتدأ المنصور بعملها سنة خمس وأربعين ، وكتب إلى الشام ، والجبل ، والكوفة ، وواسط ، والبصرة ، في معنى إنفاذ الصناع والفعلة ، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه ، وأمر باختيار قوم من ذوي الأمانة والمعرفة بالهندسة .

فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة ، وأبو حنيفة ، وأمر فخطت المدينة ، وحفر الأساس ، وضرب [ ص: 134 ] اللبن ، وطبخ الآجر ، فكان أول ما ابتدأ به منها أنه أمر بخطها بالرماد ، فدخلها من أبوابها وفصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد ، ثم أمر أن يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار ، ففعلوا ، فنظر إليها وهي تشتعل ، ففهمها وعرف رسمها ، وأمر أن يحفر الأساس على ذلك الرسم .

ووكل بها أربعة من القواد ، كل قائد بربع ، ووكل أبا حنيفة بعدد الآجر واللبن ، وكان قبل ذلك قد أراد أبا حنيفة أن يتولى القضاء والمظالم ، فلم يجب ، فحلف المنصور أنه لا يقلع عنه أو يعمل له . فأجابه إلى أن ينظر في عمارة بغداذ ويعد اللبن والآجر بالقصب ، وهو أول من فعل ذلك .

وجعل المنصور عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعا ، ومن أعلاه عشرين ذراعا ، وجعل في البناء القصب والخشب ، ووضع بيده أول لبنة ، وقال : بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . ثم قال : ابنوا على بركة الله .

فلما بلغ السور مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد بن عبد الله ، فقطع البناء ثم أقام بالكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه إبراهيم ، ثم رجع إلى بغداذ ، فأتم بناءها ، وأقطع فيها القطائع لأصحابه .

وكان المنصور قد أعد جميع ما يحتاج إليه من بناء المدينة من خشب وساج وغير ذلك ، واستخلف حين يشخص إلى الكوفة على إصلاح ما أعد أسلم مولاه ، فبلغه أن إبراهيم قد هزم عسكر المنصور ، فأحرق ما كان خلفه عليه المنصور ،

فبلغ المنصور ذلك فكتب إليه يلومه ، فكتب إليه أسلم يخبره أنه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه ، فلم يقل له شيئا .

وسنذكر كيفية بنائها في سنة ست وأربعين إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية