الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب السيد يقيم الحد على رقيقه [ ص: 145 ] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ، ولو بحبل من شعر } . متفق عليه ، ورواه أحمد في رواية وأبو داود وذكرا فيه في الرابعة الحد والبيع . قال الخطابي : معنى لا يثرب : لا يقتصر على التثريب ) .

                                                                                                                                            3138 - ( وعن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، قال { : إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير } قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3139 - ( وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه { أن خادما للنبي صلى الله عليه وسلم أحدثت ، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقيم عليها الحد ، فأتيتها فوجدتها لم تجف من دمها ، فأتيته فأخبرته ، فقال : إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد ، أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم } . رواه أحمد وأبو داود ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث علي أخرجه مسلم في صحيحه والبيهقي والحاكم ووهم فاستدركه . قوله : ( فتبين زناها ) الظاهر أن المراد تبينه بما يتبين في حق الحرة ، وذلك إما بشهادة أربعة أو بالإقرار على الخلاف المتقدم فيه . وقيل : إن المراد بالتبين أن يعلم السيد بذلك وإن لم يقع إقرار ولا قامت شهادة . وإليه ذهب بعضهم . وحكى في البحر الإجماع على أنه يعتبر شهادة أربعة في العبد كالحر والأمة حكمها حكمه . وقد ذهب الأكثر إلى أن الشهادة تكون إلى الإمام أو الحاكم . وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنها تكون عند السيد . قوله : ( ولا يثرب عليها ) بمثناة تحتية مضمومة ومثلثة مفتوحة ثم راء مشددة مكسورة وبعدها موحدة وهو التعنيف .

                                                                                                                                            وقد ثبت في رواية عند النسائي بلفظ : " ولا يعنفها " والمراد أن اللازم لها شرعا هو الحد فقط فلا يضم إليه سيدها ما ليس بواجب شرعا وهو [ ص: 146 ] التثريب . وقيل : إن المراد نهي السيد على أن يقتصر على التثريب دون الحد وهو مخالف لما يفهمه السياق .

                                                                                                                                            وفي ذلك كما قال ابن بطال دليل على أنه لا يعزر من أقيم عليه الحد بالتعنيف واللوم ، ولهذا لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم سب أحدا ممن أقام عليه الحد ، بل نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما سيأتي من حديث أبي هريرة في كتاب حد شارب الخمر . قوله : ( ثم إن زنت ) فيه دليل على أنه لا يقام على الأمة الحد إلا إذا زنت بعد إقامة الحد عليها لا إذا تكرر منها الزنا قبل إقامة الحد كما يدل على ذلك لفظ " ثم " بعد ذكر الجلد .

                                                                                                                                            قوله : ( فليبعها ) ظاهر هذا أنها لا تحد إذا زنت بعد أن جلدها في المرة الثانية ، ولكن الرواية التي ذكرها المصنف عن أبي هريرة وزيد بن خالد مصرحة بالجلد في الثالثة ، وكذلك الرواية التي ذكرها عن أحمد وأبي داود أنهما ذكرا في الرابعة الحد والبيع نص في محل النزاع ، وبها يرد على النووي حيث قال : إنه لما لم يحصل المقصود من الزجر عدل إلى الإخراج عن الملك دون الجلد مستدلا على ذلك بقوله : " فليبعها " وكذا وافقه على ذلك ابن دقيق العيد وهو مردود ، وأما الحافظ في الفتح فقال : الأرجح أنه يجلدها قبل البيع ثم يبيعها ، وصرح بأن السكوت عن الجلد للعلم به ، ولا يخفى أنه لم يسكت صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما سلف ، وظاهر الأمر بالبيع أنه واجب

                                                                                                                                            وذهب الجمهور إلى أنه مستحب فقط ، وزعم بعض الشافعية أن الأمر بالبيع منسوخ كما حكاه ابن الرفعة في المطلب ، ولا أعرف له ناسخا فإن كان هو النهي عن إضاعة المال كما زعم بعضهم فيجاب عنه أولا بأن الإضاعة إنما تكون إذا لم يكن شيء في مقابل المبيع ، والمأمور به ههنا هو البيع لا الإضاعة ، وذكر الحبل من الشعر للمبالغة ولو سلم عدم إرادة المبالغة لما كان في البيع بحبل من شعر إضاعة ، وإلا لزم أن يكون بيع الشيء الكثير بالحقير إضاعة وهو ممنوع . وقد ذهب داود وسائر أهل الظاهر إلى أن البيع واجب ; لأن ترك مخالطة الفسقة ومفارقتهم واجبان ، وبيع الحقير بالكثير جائز إذا كان البائع عالما به بالإجماع .

                                                                                                                                            قال ابن بطال : حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحض على مباعدة من تكرر منه الزنا لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك ، ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا . قال : وحمله بعضهم على الوجوب ، ولا سلف له في الأمة فلا يشتغل به انتهى . وظاهره أنه أجمع السلف على عدم وجوب البيع فإن صح ذلك كان هو القرينة الصارفة للأمر عن الوجوب وإلا كان الحق ما قاله أهل الظاهر . وأحاديث الباب فيها دليل على أن السيد يقيم الحد على مملوكه ، وإلى ذلك ذهب جماعة من السلف والشافعي وذهبت العترة إلى أن حد المماليك إلى الإمام إن كان ثم إمام وإلا كان إلى سيده ، وذهب مالك إلى أن الأمة إن كانت مزوجة كان أمر حدها إلى الإمام إلا أن يكون زوجها عبدا لسيدها فأمر حدها إلى السيد ، واستثنى مالك أيضا القطع في [ ص: 147 ] السرقة وهو وجه للشافعية ، وفي وجه لهم آخر يستثنى حد الشرب .

                                                                                                                                            وروي عن الثوري والأوزاعي أنه لا يقيم السيد إلا حد الزنا وذهبت الحنفية إلى أنه لا يقيم الحدود على المماليك إلا الإمام مطلقا .

                                                                                                                                            وظاهر أحاديث الباب أنه يحد المملوك سيده من غير فرق بين أن يكون الإمام موجودا أو معدوما ، بين أن يكون السيد صالحا لإقامة الحد أم لا . وقال ابن حزم : يقيمه السيد إلا إذا كان كافرا . وقد أخرج البيهقي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال : أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت ، ورواه الشافعي عن ابن مسعود وأبي بردة وأخرجه أيضا البيهقي عن خارجة بن زيد عن أبيه ، وأخرجه أيضا عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين ينتهى إلى أقوالهم من أهل المدينة أنهم كانوا يقولون : لا ينبغي لأحد يقيم شيئا من الحدود دون السلطان ، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده وأمته .

                                                                                                                                            وروى الشافعي عن ابن عمر أنه قطع يد عبده وجلد عبدا له زنى .

                                                                                                                                            وأخرج مالك عن عائشة " أنها قطعت يد عبد لها " وأخرج أيضا " أن حفصة قتلت جارية لها سحرتها " .

                                                                                                                                            وأخرج عبد الرزاق والشافعي " أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدت جارية لها زنت " وتقدم في الباب الذي قبل هذا " أنها جلدت وليدة لها خمسين " . وقد احتج من قال : إنه لا يقيم الحدود مطلقا إلا الإمام بما رواه الطحاوي عن مسلم بن يسار أنه قال : " كان رجل من الصحابة يقول : الزكاة والحدود والجمعة والفيء إلى السلطان " . قال الطحاوي : لا نعلم له مخالفا من الصحابة ، وتعقبه ابن حزم بأنه خالفه اثنا عشر صحابيا . وظاهر أحاديث الباب أن الأمة والعبد يجلدان سواء كانا محصنين أم لا ، وقد تقدم الخلاف في ذلك في الباب الذي قبل هذا . وقد اختلف أهل العلم في المملوك إذا كان محصنا هل يرجم أم لا ؟ فذهب الأكثر إلى الثاني ، وذهب الزهري وأبو ثور إلى الأول . واحتج الأولون بأن الرجم لا يتنصف ، واحتج الآخرون بعموم الأدلة ، وأما المكاتب فذهبت العترة إلى أنه لا رجم عليه ويجلد كالحر بقدر ما أدى وفي البقية كالعبد ، وذهبت الشافعية والحنفية إلى أنه يجلد كالعبد مطلقا لحديث : { المكاتب عبد ما بقي عليه درهم } وقد تقدم الكلام على التقسيط في المكاتب في باب الكتابة .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية