الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما يصير به الكافر مسلما 3217 - ( عن ابن مسعود قال : { إن الله عز وجل ابتعث نبيه لإدخال رجل الجنة فدخل الكنيسة فإذا يهود ، وإذا يهودي يقرأ عليهم التوراة ، فلما أتوا على صفة النبي صلى الله عليه وسلم أمسكوا وفي ناحيتها رجل مريض ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما لكم أمسكتم ؟ ، فقال المريض : إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا ، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، فقال : هذه صفتك وصفة أمتك ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لوا أخاكم } رواه أحمد ) . [ ص: 231 ]

                                                                                                                                            3218 - ( وعن أبي صخر العقيلي قال : حدثني رجل من الأعراب قال : { جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغت من بيعتي قلت : لألقين هذا الرجل ولأسمعن منه ، قال : فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرا التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي ؟ ، فقال برأسه هكذا : أي لا ، فقال ابنه : إي والله الذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فقال : أقيموا اليهودي عن أخيكم ثم ولي دفنه وجننه والصلاة عليه . } رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            3219 - ( وعن أنس : { أن يهوديا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أنك رسول الله ثم مات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلوا على صاحبكم } . رواه أحمد في رواية مهنا محتجا به ) .

                                                                                                                                            3220 - ( وعن ابن عمر قال : { بعث رسول الله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا . فجعل خالد يقتل ويأسر ، ودفع إلى كل رجل منا أسيره ، حتى إذا أصبح أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره ، فقلت : والله لا أقتل أسيري ، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين . } رواه أحمد والبخاري ، وهو دليل على أن الكناية مع النية كصريح لفظ الإسلام ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث ابن مسعود أخرجه أيضا الطبراني . قال في مجمع الزوائد : في إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط . وحديث أبي صخر العقيلي ، قال في مجمع الزوائد : أبو صخر لم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح . وقال ابن حجر في المنفعة : قلت اسمه عبد الله بن قدامة وهو مختلف في صحبته ، وجزم البخاري ومسلم وابن حبان وغيرهم بأن له صحبة ، [ ص: 232 ] ثم ذكر ابن حجر في المنفعة الاضطراب في إسناده . وحديث أنس قال في مجمع الزوائد : أخرجه أبو يعلى بإسناد رجاله رجال الصحيح ، والأحاديث المذكورة في الباب بعضها يشهد لبعض ، وقد ورد في معناها أحاديث ، منها ما أخرجه في الموطإ عن رجل من الأنصار : أنه { جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية له فقال : يا رسول الله علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟ قالت : نعم ، قال : أتشهدين أن محمدا رسول الله ؟ قالت : نعم ، قال : أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟ قالت : نعم ، قال : أعتقها } وأخرج أبو داود والنسائي من حديث الشريد بن سويد الثقفي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجارية : من ربك ؟ قالت : الله ، قال : فمن أنا ؟ قالت : رسول الله ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة } وأخرج مسلم ومالك في الموطإ وأبو داود والنسائي من حديث معاوية بن الحكم السلمي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجارية أراد معاوية بن الحكم أن يعتقها عن كفارة : أين الله ؟ فقالت : في السماء ، فقال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله ، فقال أعتقها } وأخرج نحوه أبو داود من حديث أبي هريرة ، ومثل ذلك أحاديث : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله } كما في الأمهات عن جماعة من الصحابة .

                                                                                                                                            قوله : ( ابتعث الله نبيه ) أي بعثه الله من بيته ليحصل بذلك إدخال رجل الجنة وهو الرجل المريض في الكنيسة ، فإن دخوله صلى الله عليه وسلم كان سبب إسلامه الذي صار سببا في دخوله الجنة . قوله : ( لوا أخاكم ) فيه الأمر لمن كان من المسلمين في حضرته صلى الله عليه وسلم بأن يلوا أمر ذلك الرجل المريض لأنه قد صار بسبب تكلمه بالشهادتين أخا لهم . قوله : ( وجننه ) الجنن بالجيم ونونين القبر ذكره في النهاية . قوله : ( صبأنا صبأنا ) أي دخلنا في دين الصابئة وكان أهل الجاهلية يسمون من أسلم صابئا وكأنهم قالوا : أسلمنا أسلمنا ، والصابئ في الأصل : الخارج من دين إلى دين . قال في القاموس : صبأ كمنع وكرم ، وصبأ صبوءا : أخرج من دين إلى دين . ا هـ . قوله : ( مما صنع خالد ) تبرأ صلى الله عليه وسلم من صنع خالد ولم يتبرأ منه ، وهكذا ينبغي أن يقال لمن فعل ما يخالف الشرع ولا سيما إذا كان خطأ . وقد استدل المصنف بأحاديث الباب على أنه يصير الكافر مسلما بالتكلم بالشهادتين ولو كان ذلك على طريق الكناية بدون تصريح كما وقع في الحديث الآخر .

                                                                                                                                            وقد وردت أحاديث صحيحة قاضية بأن الإسلام مجموع خصال : أحدها : التلفظ بالشهادتين ، منها حديث ابن عمر عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : { بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع عليه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر وفيه فقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي [ ص: 233 ] الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا } ومنها ما أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة ، وفيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان } .

                                                                                                                                            ومنها ما أخرج الشيخان والترمذي والنسائي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان } ومنها ما أخرجه الشيخان ومالك في الموطإ وأبو داود والنسائي من حديث طلحة بن عبد الله أنه { جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فسأله عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات في اليوم والليلة ، وصيام رمضان وذكر له الزكاة } .

                                                                                                                                            وأخرج النسائي عن بهز بن حكيم : { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن آيات الإسلام فقال : أن تقول أسلمت وجهي وتخليت ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة } وأخرج النسائي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم } وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده } وأخرج مسلم من حديث جابر والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي موسى نحو ذلك . وأخرج الشيخان من حديث عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى } .

                                                                                                                                            وأخرج البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها } ولفظ البخاري : { من شهد أن لا إله إلا الله ، واستقبل قبلتنا ، وصلى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فهو المسلم ; له ما للمسلم وعليه ما على المسلم } فهذه الأحاديث ونحوها تدل على أن الرجل لا يكون مسلما إلا إذا فعل جميع الأمور المذكورة فيها .

                                                                                                                                            والأحاديث الأولى تدل على أن الإنسان يصير مسلما بمجرد النطق بالشهادتين . قال الحافظ في الفتح عند الكلام على حديث { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله } في باب قتل من أبى من قبول الفرائض من كتاب استتابة المرتدين والمعاندين ما لفظه : وفيه منع قتل من قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها .

                                                                                                                                            وهو كذلك لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما ؟ الراجح : لا ، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر فإن شهد بالرسالة والتزم [ ص: 234 ] أحكام الإسلام حكم بإسلامه ، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله : " إلا بحق الإسلام " . قال البغوي : الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية ، فإذا قال : لا إله إلا الله حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع الأحكام ويبرأ من كل دين خالف الإسلام .

                                                                                                                                            وأما من كان مقرا بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول : محمد رسول الله ، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلا بد أن يقول إلى جميع الخلق ، فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج إلى أن يرجع عن اعتقاده .

                                                                                                                                            قال الحافظ : ومقتضى قوله " يجبر " أنه إذا لم يلتزم يجري عليه حكم المرتد وبه صرح القفال ، واستدل بحديث الباب وادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله } وهي غفلة عظيمة فإن ذلك ثابت في الصحيحين في كتاب الإيمان منهما كما قدمنا الإشارة إلى ذلك انتهى .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية