الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7464 ) فصل : ويجوز للإمام ونائبه أن يبذلا جعلا لمن يدله على ما فيه مصلحة للمسلمين ، مثل طريق سهل ، أو ماء في مفازة ، أو قلعة يفتحها ، أو مال يأخذه ، أو عدو يغير عليه ، أو ثغرة يدخل منها . لا نعلم في هذا خلافا ; لأنه جعل في مصلحة ، فجاز ، كأجرة الدليل ، وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الهجرة من دلهم على الطريق .

                                                                                                                                            ويستحق الجعل بفعل ما جعل له الجعل فيه ، سواء كان مسلما أو كافرا ، من الجيش أو من غيره . فإن جعل له الجعل مما في يده وجب أن يكون معلوما ; لأنها جعالة بعوض من مال معلوم ، فوجب أن يكون معلوما ، كالجعالة في رد الآبق ، وإن كان الجعل من مال الكفار ، جاز أن يكون مجهولا ، جهالة لا تمنع التسليم ، ولا تفضي إلى التنازع ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للسرية الثلث والربع مما غنموه ، وهو مجهول ; لأن الغنيمة كلها مجهولة ، ولأنه مما تدعو الحاجة إليه ، والجعالة إنما تجوز بحسب الحاجة .

                                                                                                                                            فإن جعل له جارية معينة إن دله على قلعة يفتحها ، مثل أن جعل له بنت رجل عينه من أهل القلعة ، لم يستحق شيئا حتى يفتح القلعة ; لأن جعالة شيء منه اقتضت اشتراط فتحها ، فإذا فتحت القلعة عنوة ، سلمت إليه ، إلا أن تكون قد أسلمت قبل الفتح ، فإنها عصمت نفسها بإسلامها ، فتعذر دفعها إليه ، فتدفع إليه قيمتها .

                                                                                                                                            فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل مكة عام الحديبية ، على أن من جاءه مسلما رده إليهم ، فجاءه نساء مسلمات ، منعه الله من ردهن . ولو كان الجعل رجلا من أهل القلعة ، فأسلم قبل الفتح ، عصم أيضا نفسه ، ولم يجز دفعه ، وكان لصاحب الجعل قيمته . وإن كان إسلام [ ص: 187 ] الجارية أو الرجل بعد أسرهم ، سلما إليه إن كان مسلما ، وإن كان كافرا ، فله قيمتهما ; لأن الكافر لا يبتدئ الملك على مسلم .

                                                                                                                                            وإن ماتا قبل الفتح أو بعده ، فلا شيء له ; لأنه علق حقه بشيء معين ، وقد تلف بغير تفريط ، فسقط حقه ، كالوديعة . وفارق ما إذا أسلما ، فإن تسليمهما ممكن ، لكن منع الشرع منه . وإن كان الفتح صلحا ، فاستثنى الإمام الجارية والرجل ، وسلمهما صح ، وإن وقع الصلح مطلقا ، طلب الجعل من صاحب القلعة ، وبذلت له قيمتهما ، فإن سلما إلى الإمام ، سلمهما إلى صاحبهما ، وإن أبى ، عرض على مشترطهما قيمتهما ، فإن أخذها ، أعطيها وتم الصلح ، وإن أبى ، فقال القاضي : يفسخ الصلح ; لأنه حق قد تعذر إمضاء الصلح فيه ، لأن صاحب الجعل سابق ، ولا يمكن الجمع بينه وبين الصلح .

                                                                                                                                            ونحو هذا مذهب الشافعي . ولصاحب القلعة أن يحصنها مثلما كانت من غير زيادة ، ويحتمل أن يمضي الصلح ، وتدفع إلى صاحب الجعل قيمته ; لأنه تعذر دفعه إليه مع بقائه ، فدفعت إليه قيمته ، كما لو أسلم الجعل قبل الفتح ، أو أسلم بعده وصاحب الجعل كافر . وقولهم : إن حق صاحب الجعل سابق . قلنا : إلا أن المفسدة في فسخ الصلح أعظم ; لأن ضرره يعود على الجيش كله ، وربما عاد على غيره من المسلمين ، في كون هذه القلعة يتعذر فتحها بعد ذلك ، ويبقى ضررها على المسلمين .

                                                                                                                                            ولا يجوز تحمل هذه المضرة لدفع ضرر يسير عن واحد ، فإن ضرر صاحب الجعل إنما هو في فوات عين الجعل ، وتفاوت ما بين عين الشيء وقيمته يسير ، سيما وهو في حق شخص واحد ، ومراعاة حق المسلمين أجمعين بدفع الضرر الكثير عنهم ، أولى من دفع الضرر اليسير عن واحد منهم أو من غيرهم ، ولهذا قلنا في من وجد ماله قبل قسمه : فهو أحق به ، فإن وجده بعد قسمه ، لم يأخذه إلا بثمنه ، لئلا يؤدي إلى الضرر بنقص القيمة ، أو حرمان من وقع ذلك في سهمه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية