التفكّر في المخلوقات: عبادة القلب وسبيل المعرفة

0 7

الحمد لله فتح لعباده أبواب النظر والاعتبار، وجعل في صفحات الكون آيات شاهدة على كمال حكمته، وجعل في خلق السماوات والأرض آيات للمتفكرين، ودلائل باهرة على قدرته وربوبيته.
إن التفكر في مخلوقات الله تعالى عبادة قل من يلتفت إليها، مع أنها سبيل راسخ من سبل الإيمان، ومفتاح عظيم من مفاتيح المعرفة. قال تعالى:
{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191].

فالكون كتاب منشور، حروفه الكواكب والنجوم، وكلماته الجبال والبحار، وصفحاته الليل والنهار، لا يمل قارئه من تدبر عجائبه، ولا ينقضي عجب الناظر في بديع صنعه. ومن هنا كان التفكر وظيفة أولي الألباب، وقرين الإيمان الصادق.
لقد وقف إبراهيم عليه السلام يتأمل جرم الكوكب ثم القمر ثم الشمس، يستدل بطلوعها وأفولها على أن رب هذا الوجود أعظم منها وأبقى، حتى قال في ختام رحلته الإيمانية: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} [الأنعام: 79].
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي هذه المعاني في نفوس أصحابه، فإذا جن عليه الليل قام يناجي ربه، ثم يقرأ خواتيم آل عمران فيبكي ويقول:"ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
وما ذاك إلا ليعلم الأمة أن التفكر عبادة مثل الصلاة والذكر، فهو غذاء العقل والروح، وعبادة العقل الواعي الذي يرى بنور الإيمان.

لقد استحث القرآن الكريم أولي النظر والفكر على التأمل في المحسوسات والمشاهدات الكونية: السماء المرفوعة، والأرض المبسوطة، والجبال الراسيات، والإبل المهيأة للحمل والسير، فقال تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت.وإلى السماء كيف رفعت.وإلى الجبال كيف نصبت.وإلى الأرض كيف سطحت، فذكر إنما أنت مذكر} [الغاشية: 17-21].فذكر أيها النبي هؤلاء العقلاء ليخرجوا من ظلمات الجهالة إلى أنوار العلم، ومن غي الضلال إلى سبيل الحق والهداية.

ومن التفكر المفيد أيضا ما يتجاوز حدود النظر المجرد، ليترجم في واقع الحياة إلى عمل نافع، وإنتاج مثمر، وخير متعد ينفع صاحبه وينفع الناس. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله". [رواه الترمذي].

أيها القارئ الكريم، انظر إلى جناح بعوضة تدب على الأرض، تجد فيه من بديع الصنعة ما يعجز عنه خيال العلماء، وانظر إلى نظام الأفلاك وهي تجري في فلكها بغير خلل ولا اضطراب، كأنها جند مصطف بأمر الملك القهار. ثم تأمل قلبك وهو يخفق بين أضلاعك بلا توقف منذ ولدت، أليس ذلك آية من آياته؟
إن التفكر في المخلوقات يورث القلب خضوعا، ويبعث على المحبة والخشية، ويملأ النفس يقينا بأن وراء هذا الكون ربا عظيما، واحدا في ملكه، جليلا في سلطانه، لطيفا بعباده.

فلنحرص على هذه العبادة القلبية، ولنقف مع أنفسنا وقفات نتأمل فيها السماء المزدانة بالنجوم، والأرض المفروشة بالنبات، والبحر المائج بالحياة، فنزداد إيمانا ويقينا، ونستحضر عظمة الخالق في كل مشهد وموقع.
{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53].

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة