السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وفقكم الله دوما لإجابة الناس وتوضيح الأمور، فقد استفدت منكم كثيرا، ولا زلت أستفيد، جزاكم الله خيرا.
منذ وفاة والدتي قبل ست سنوات، وأنا ووالدي في خلاف دائم حول أمور في الغالب تافهة، وإن وجد ما يستحق الوقوف عنده أحيانا، إلا أن معظمها لا يستدعي النزاع.
والمشكلة أنني لست من يضخم الأمور أو يفتعل الخلاف، بل والدي هو من يفعل ذلك، وأنا فقط أرد عليه لأدافع عن حقي، لكنه لا يريدني حتى أن أدافع، بل يرغب في أن أطيعه كما لو كنت آلة، بلا شخصية، ولا كرامة، ولا أدنى رضا عن نفسي.
وقد بحثت وقرأت، ووجدت أن من المفترض أن يحفظ الأب كرامة ابنه، لكن هذا لا يحدث إلا نادرا، فمعظم الوقت يسيء إلي بأقواله وأفعاله.
ومع ذلك، لست أعد هذه هي المشكلة الأساسية، لأني أعلم أنه لن يتغير، ولهذا أدعو الله أن ييسر لي الخروج من البيت بأقرب وقت، لأبتعد عن هذه المشاكل.
وسؤالي هو:
أنا طالب علم، أسعى – ولو بقدر يسير – إلى طريق الله، وأحفظ القرآن، وأحاول دائما تصحيح ديني، لكن مشكلتي مع والدي تؤرقني دائما، فأنا لا أعلم إن كنت بذلك أعد عاقا له أم لا، وأعلم أن العقوق من موانع الرزق، وهذا ما يخيفني أكثر.
فكيف أعرف إن كنت عاقا له أم لا، حتى أبدأ بإصلاح أمري؟ أنا أخشى أن ألقى الله وأنا على حال من العقوق.
أي: ما هي الأمور التي يجب أن أنظر إليها، وأحكم من خلالها: هل هذا عقوق أم لا؟ لأن العلاقة بيني وبينه تكاد تنعدم، ولا نتحدث سوى في حدود ضيقة جدا، مثل "صباح الخير"، وليس بيننا أي مشاركة، مع أنه يتحدث مع الزائرين بشكل طبيعي، لكنه لا يتحدث إلي، بل يعطل الحديث معي دائما.
فأرشدوني، جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ Mohammed حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -أخي الكريم- في موقعك إسلام ويب، نسأل الله أن يفتح لك باب الرضا، ويؤلف بينك وبين والدك، ويرزقك الصبر والحكمة، ويجزيك خيرا على صدق حرصك وخوفك من العقوق، فهذا الخوف نفسه علامة خير ونقاء قلب.
وأبشرك أن كثيرا من الناس يعيشون ظروفا شبيهة بحالتك، لكن أهل الصلاح هم من يسألون تلك الأسئلة: "هل أنا عاق؟ كيف أعرف؟ وكيف أتوب وأعدل طريقي؟"
فما دمت تسأل هذا السؤال؛ فاعلم أنك قريب من الله، وأن عاقبة أمرك – مع الصبر والاحتساب – إلى خير.
العقوق ليس كل خلاف، وليس كل جدال، وليس كل لحظة غضب بينك وبين والدك، بل العقوق هو أن ترد قول أبيك بهوى، أو أن تتعمد إيذاءه، أو ترفع صوتك عليه بغيا، أو تقطع بره بلا عذر، فقد قال النبي ﷺ: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين..."، لكن العلماء قالوا: ليس كل خطأ مع الوالدين عقوقا، بل العبرة بالنية، وبالأسلوب، وبالاستمرار.
انظر إلى هذه الأمور، فإن وجدتها فيك؛ فاحذر: أن ترد على أبيك بصوت مرتفع عن قصد وإهانة، أن تتعمد إغاظته أو تجاهله ليشعر بالذل، أن تسبه أو تستهزئ به أمام الناس أو في غيابه، أن تقطع السلام أو الزيارة أو البر بلا سبب، أن تمنعه من حقوقه كالسكن أو النفقة إن كان محتاجا، أن تتمنى له السوء أو تتعامل معه بقلب حاقد.
أما إن كنت ترد عليه بالحق وبأدب حين يظلمك، أو تدافع عن نفسك دون المساس بمقام الأبوة، وتفعل ذلك وأنت تدعو له وترجو له السلامة، وتسارع في إرضائه بالمعروف ولا تتعمد مخالفته إلا لحق وبأدب؛ فأنت لست عاقا، بل صابر محتسب.
ماذا أفعل الآن، خاصة أنني لا أطيق العيش في بيت الخلاف؟
اثبت على الحد الأدنى من البر، لا تقطع السلام، لا تقطع الدعاء له، لا تتكلم عنه بسوء أمام الناس، وإن احتاج شيئا مهما فأده له، هذه الأمور البسيطة – إذا صبرت عليها – ليست فقط تمنع العقوق، بل تجلب لك الأجر.
لا تحكم على رزقك بأنه حجب بسبب علاقتك بوالدك دون بينة، قد يكون رزقك متأخرا لحكمة أخرى، والله أعلم بخلقه.
خلاصة القول: ما دمت تعرف لأبيك حقه، وتخالفه فيما تراه حقا لك، وتخالفه بأدب جم، ولا تتعمد مخالفته لهوى، وتكثر من الدعاء له، فأنت على خير إن شاء الله.
نسأل الله أن يرزقك قلبا راضيا، ونفسا مطمئنة، وصبرا على والدك، وبرا به، وأن يجعل طريقك طريق خير وبركة، وأن يفتح عليك من خزائن رزقه، وأن يرزقك من حيث لا تحتسب.
والله الموفق.