السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والدي رجل مثقف، يحمل شهادة في الرياضيات، وينتمي إلى عائلة معروفة في المنطقة، لكن بسبب الحرب في بلادنا وخسارتنا لبيتنا، فقد الرغبة في العمل، واكتفى بوظيفة حكومية لا يتجاوز راتبها ما يكفينا لأسبوع واحد فقط، أما بقية الشهر؛ فنعتمد على مساعدات الجيران والأقارب، حتى أصبح ذلك أمرا معروفا بوضوح في المنطقة.
عندما يأتي الخطاب، لا يعودون مجددا لهذا السبب، ونحن نحظى بمستوى جيد من العلم والأخلاق -الحمد لله-، وندرس الطب والهندسة، ونرتدي الملابس الشرعية، وملتزمات بطلب العلم في المسجد -بفضل الله ومنته-، لكننا نعيش في بيت مؤجر وهو قديم ومتهالك نوعا ما، وهو السبب في عدم عودة الخطاب.
بدأ يداخلني شيء من الانزعاج والضيق من تصرفات والدي؛ فلماذا يفعل بنا هذا، ولا يبالي بسمعته وسمعة بناته؟ لقد كثر الخطاب، لكن لا أحد منهم يعود، ووالدي يعلم السبب بنسبة 90%، فهو ليس ساذجا إلى هذا الحد.
أعلل نفسي بأن من يأتي طالبا للدين والخلق لا تهمه هذه الأمور، لكن سرعان ما تعود إلي تلك الأفكار، فكيف لي أن أتخلص منها؟ وكيف أزيل هذا الاستياء من قلبي تجاه تصرف والدي؟ وهل حقا من يهتم بالدين والخلق لا يكترث لمثل هذه التفاصيل؟ خصوصا أنني لا دخل لي بها، ولا يد لي فيها، وهل من الممكن أن يعايرني بها أحد في المستقبل؟ لا أستطيع التوقف عن التفكير في هذا الأمر.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سائلة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -أختنا الفاضلة- في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل.
أختنا المباركة: اعلمي أن ما ترينه من تقصير والدك ليس بالضرورة إهمالا أو تفريطا، بل قد يكون ضعفا وعجزا نفسيا؛ سببه ظروف الحرب، وفقدان البيت والمال، فصار قانعا بالقليل، مكتفيا بما تيسر، لا سيما مع تقدمه بالسن، وهذا يدعوك إلى أن تنظري إليه بعين الرحمة لا بعين العتاب، وبعين الدعاء لا بعين اللوم.
ولا شك أن والدك قد بلغ من العمر مبلغا يحتاج فيه إلى الراحة والسكينة، بعد رحلة طويلة من الكفاح في السعي على أهله، وتوفير القوت، وتعليم بناته وأولاده، ورغم أن ما يملكه اليوم قليل إلا أنه كفاف يصونكم عن ذل السؤال -بفضل الله-.
ما يقدمه الجيران والأقارب: إنما هو من باب الإعانة، والتكاتف المجتمعي الرائع، والذي يحتاجه الجميع في ساعات الشدة والظروف الصعبة التي قد تمر بأي أحد مهما كان شريفا، رفيع القدر في أي مجتمع، وليس ذلك منقصة ولا عيبا، فلا تحملي هذه الأمور فوق ما تحتمل.
واعلمي أن الوالد في هذا العمر أحوج ما يكون إلى مزيد من الاحترام والتقدير؛ فإن بر الوالدين عند الكبر من أعظم مقامات البر والإحسان، ورد الجميل والمعروف. وتذكري قول الله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ۚ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما}.
أختنا الفاضلة: ما ذكرته من عزوف بعض الخطاب بسبب الظروف المعيشية؛ اعلمي أولا أنه من قضاء الله وقدره، وأن الأرزاق مقسومة مكتوبة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها" [رواه الحاكم].
واعلمي -وفقك الله- أن من يطلبك لدينك وخلقك لن يضره حال بيتك، ولا مال والدك، بل قد يكون فقر الدنيا سببا في رفعتك عند من يخشى الله، ويقدرك لصلاحك وحيائك وأدبك، وأما من انصرف عنك لأجل الدنيا، فقد كفاك الله شره، وما عند الله خير وأبقى.
أختنا الكريمة: إن كثرة التفكير في المستقبل، والخوف من ذهاب الخطاب، قد يدفعك إلى التوهم أن السبب هو حال والدك؛ كل هذا قد يكون من وساوس النفس والشيطان، ومن صور الهواجس والخوف من المستقبل؛ ليدفعك ذلك للبحث عن الأسباب، فلا تجدي غير لوم أبيك بغير حق ولا يقين.
والحقيقة أن كثيرا من أسباب عزوف الخطاب قد تكون لأمور أخرى، لا علاقة لها بالفقر، بل لحكمة يعلمها الله، فلا تحصري الأسباب في والدك حتى تخرجي من استيلاء هذا التفكير عليك، وحتى تستطيعي التفكير بشكل إيجابي في معرفة الأسباب الحقيقية.
ثم إن الأهم أن تنظري في نفسك وذاتك، باعتبارك جزءا مهما في فهم الأسباب، والوصول إلى الحلول، فالله تعالى يقول: {إن الله لا يغير ما بقوم حتىٰ يغيروا ما بأنفسهم}.
فالفتاة التي تبني شخصيتها بالعلم والدين، وتتحلى بالخلق والحياء والأدب، ويظهر نبوغها وتميزها، تنتشر سيرتها الطيبة بين الطيبين والصالحين كعطر زكي، ويتمناها كل مؤمن صادق أما لأولاده، وقال الله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ۖ والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ۚ أو۟لـٰٓئك مبرءون مما يقولون ۖ لهم مغفرة ورزق كريم}.
فاشغلي وقتك بما ينفعك، واعملي على تقوية شخصيتك، وتوسيع دائرة معارفك من النساء الثقات، والمبادرة للأعمال التطوعية والدعوية والخيرية؛ ليظهر ما تملكين من دين وخلق وحياء وأدب في تعاملك مع مثيلاتك من النساء الصالحات، فيكون ذلك من أسباب تيسير الزواج الصالح -بإذن الله-.
وتذكري دائما أن والدك قد بذل الكثير في حياتك؛ فأنفق عليك حتى وصلت -بفضل الله- إلى دراسة الطب أو الهندسة، وذلك في زمن الحرب، بما فيه من شدة وفقدان للبيت، وكم هو عزيز على النفس، أليس في ذلك ما يستوجب شكرا وعرفانا بدلا من الاستياء؟
فأحسني الظن بالله تعالى، وخففي عن والدك بالكلمة الطيبة وحسن الصحبة، وذكري نفسك دائما بما له من فضل وحقوق عليك، حتى يزول من قلبك ما تجدينه تجاهه، وإن استطعت أن تسهمي أنت وبقية أفراد الأسرة بما تستطعن من أعمال أو منتجات منزلية تعين في زيادة دخل الأسرة، فذلك باب خير لكم جميعا.
وأخيرا: أكثري من الدعاء أن يهيئ الله لك الزوج الصالح، وأن يرضى عن والدك، وأن يرزقكم من حيث لا تحتسبون، واعلمي أن الصابرين الموقنين بربهم لا يضيعهم الله أبدا، وسيعوضك خيرا مما فاتك، لقوله تعالى: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا}.
وفقك الله، ويسر أمرك.