أضواء على حديث: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت بها أنفسها...

0 128

السؤال

سؤالي عن: "ما لم يعمل، أو يتكلم" في حديث: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت بها أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم.
ما حدود الكلام هل يعني إذا حرك شخص لسانه بدون صوت، أو حرك شفتيه بدون تحريك اللسان، أو تحدث داخل نفسه؟
نرجو تفصيل معنى الكلام والعمل.
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فمن رحمة الله بعباده ولطفه بهذه الأمة، أنه لم يؤاخذهم بمجرد حديث النفس، فما يقع في القلب من الخواطر الرديئة، والهم بالمعصية من غير استقرار في القلب، لا يؤاخذ به العبد، وإنما يؤاخذ بما تكلم به أو عمل به.

وأما الكلام في النفس فلا مؤاخذة به عند الجمهور، وحد الكلام الذي يؤاخذ به هو ما يسمى كلاما، وهو تحريك اللسان والشفتين وإخراج الحروف من مخارجها.

قال البدر العيني في شرح البخاري: قوله: (ما لم تعمل) أي: في العمليات (أو تكلم) في القوليات. وأما قول ابن العربي: إن المراد بقوله: ما لم تكلم، الكلام النفسي، إذ هو الكلام الأصلي، وأن القول الحقيقي هو الوجود بالقلب الموافق للعلم، فهو مردود عليه، وإنما قاله تعصبا لما حكى عن مذهبه من وقوع الطلاق بالعزم، وإن لم يتلفظ. وحكاه عن رواية أشهب عن مالك في الطلاق والعتق والنذر أنه يكفي فيه عزمه وقوله وجزمه في قلبه بكلامه النفسي الحقيقي، ونصر ذلك بأن اللسان معبر عما في القلب، فما كان يملكه الواحد كالنذر والطلاق والعتاق كفى فيه عزمه، وما كان من التصرفات بين اثنين لم يكن بد من ظهور القول، وهذا في غاية البعد، وقد نقضه الخطابي على قائله بالظهار وغيره، فأنهم أجمعوا على أنه: لو عزم على الظهار لم يلزمه حتى يلفظ به، قال: وهو في معنى الطلاق، وكذلك لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قذفا، ولو حدث نفسه في الصلاة لم يكن عليه إعادة، وقد حرم الله تعالى الكلام في الصلاة، فلو كان حديث النفس في معنى الكلام لكانت صلاته تبطل، وقال عمر، رضي الله تعالى عنه: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة. انتهى.

وفي إرشاد الساري للقسطلاني: (إن الله) عز وجل (تجاوز لأمتي عما وسوست أو) قال (حدثت به أنفسها) بالنصب للأكثر وبالرفع لبعضهم، أي بغير اختيارها؛ كقوله تعالى: {ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق: 16] (ما لم تعمل به) بالذي وسوست أو حدثت (أو تكلم) بفتح الميم بلفظ الماضي. وقال الكرماني، وتبعه العيني بالجزم قال: وأراد أن الوجود الذهني لا أثره له، وإنما الاعتبار بالوجود القولي في القوليات والعملي في العمليات. انتهى.

وأما ما يستقر في القلب ويعزم عليه الشخص عزما مصمما فهو مؤاخذ به، وليس داخلا في هذا الحديث.

قال القاري في المرقاة: الصواب ما قاله الطيبي من أن الوسوسة ضرورية، واختيارية.

 فالضرورية: ما يجري في الصدور من الخواطر ابتداء، ولا يقدر الإنسان على دفعه، فهو معفو عن جميع الأمم.

 والاختيارية: هي التي تجري في القلب، وتستمر، وهو يقصد، ويعمل به، ويتلذذ منه كما يجري في قلبه حب امرأة، ويدوم عليه، ويقصد الوصول إليها، وما أشبه ذلك من المعاصي، فهذا النوع عفا الله عن هذه الأمة خاصة تعظيما، وتكريما لنبينا -عليه الصلاة والسلام-، وأمته، وإليه ينظر قوله تعالى: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} [البقرة: 286]. وأما العقائد الفاسدة، ومساوئ الأخلاق، وما ينضم إلى ذلك فإنها بمعزل عن الدخول في جملة ما وسوست به الصدور. اهـ.

وهو كلام حسن. ولهذا قيده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما لم تعمل، أو تتكلم) إشارة إلى أن وسوسة الأعمال، والأقوال معفوة قبل ارتكابها، وأما الوسوسة التي لا تعلق لها بالعمل، والكلام من الأخلاق والعقائد فهي ذنوب بالاستقرار.

 وذكر الإمام النووي أن مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية، ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده، وعزمه، ويحمل ما وقع في أمثال قوله -عليه الصلاة والسلام-: ( إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوا عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة ) الحديث. فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مر ذلك بفكر من غير استقرار، ويسمى هذا هما، ويفرق بين الهم والعزم، وهذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثير من الفقهاء، والمحدثين، وأخذوا بظاهر الحديث. وقال القاضي عياض: عامة السلف، وأهل العلم من الفقهاء، والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة، وليست السيئة التي هم بها لكونها لم يعملها، وقطع عنها قاطع غير خوف الله تعالى، والإنابة، لكن الإصرار، والعزم معصية، فصار تركه لخوف الله تعالى، ومجاهدته نفسه الأمارة حسنة، فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا يوطن النفس عليها، ولا يصحبها عقد، ولا نية، وعزم، وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى، بل لخوف الناس هل تكتب حسنة؟ قال: لا، لأنه إنما حمله على تركها الحياء، وهذا الخلاف ضعيف لا وجه له. هذا آخر كلام القاضي، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر، من ذلك قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} [النور: 19]، وقوله: {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12]. والآيات في هذا كثيرة. وقد تظاهرت نصوص الشرع، وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب، وعزمها، وقد تقدم الفرق بين ما له تعلق بالعمل، وبين ما ليس له تعلق به. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة