إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
البحث الثالث

شرع من قبلنا

وفي ذلك مسألتان

( المسألة الأولى )

هل كان نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل البعثة متعبدا بشرع أم لا ؟ وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب :

فقيل : إنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان متعبدا قبل البعثة بشريعة آدم ; لأنها أول الشرائع .

وقيل : بشريعة نوح ; لقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا .

وقيل : بشريعة إبراهيم ; لقوله تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي وقوله تعالى : أن اتبع ملة إبراهيم .

قال الواحدي : وهذا هو الصحيح .

قال ابن القشيري في المرشد : وعزى إلى الشافعي .

قال الأستاذ أبو منصور : وبه نقول ، وحكاه صاحب المصادر عن أكثر أصحاب أبي [ ص: 684 ] حنيفة ، وإليه أشار أبو علي الجبائي .

وقيل : كان متعبدا بشريعة موسى .

وقيل : بشريعة عيسى ; لأنه أقرب الأنبياء ; ولأنه الناسخ لما قبله من الشرائع ، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني كما حكاه عنه الواحدي .

وقيل : كان على شرع من الشرائع ، ولا يقال : كان من أمة نبي من الأنبياء ، أو على شرعه .

قال ابن القشيري في المرشد : وإليه كان يميل الأستاذ أبو إسحاق .

وقيل : كان متعبدا بشريعة كل من قبله من الأنبياء ، إلا ما نسخ منها واندرس ، حكاه صاحب الملخص . وقيل : كان متعبدا بشرع ، ولكن لا ندري بشرع من تعبده الله ، حكاه ابن القشيري .

وقيل : لم يكن قبل البعثة متعبدا بشرع ، حكاه في المنخول عن إجماع المعتزلة .

قال القاضي في مختصر التقريب وابن القشيري : هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين ، قال جمهورهم : إن ذلك محال عقلا ; إذ لو تعبد باتباع أحد لكان غضا من نبوته .

وقال بعضهم : بل كان على شريعة العقل .

قال ابن القشيري وهذا باطل ; إذ ليس للعقل شريعة ، ورجح هذا المذهب ، أعني عدم التعبد بشرع قبل البعثة القاضي ، وقال : هذا ما نرتضيه وننصره ; لأنه لو كان على دين لنقل ولذكره - صلى الله عليه وسلم - إذ لا يظن به الكتمان .

وعارض ذلك إمام الحرمين وقال : لو لم يكن على دين أصلا لنقل ، فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي .

قال : فقد تعارض الأمران .

والوجه أن يقال : كانت العادة انخرقت في أمور الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - [ ص: 685 ] بانصراف همم الناس عن أمر دينه ، والبحث عنه ، ولا يخفى ما في هذه المعارضة من الضعف وسقوط ما رتبه عليها .

وقيل : بالوقف ، وبه قال إمام الحرمين ، وابن القشيري ، وإلكيا ، والغزالي ، والآمدي ، والشريف المرتضى ، واختاره النووي في الروضة ، قالوا : إذ ليس فيه دلالة عقل ، ولا ثبت فيه نص ، ولا إجماع .

قال ابن القشيري في المرشد بعد حكاية الاختلاف في ذلك : وكل هذه أقوال متعارضة ، وليس فيها دلالة قاطعة ، والعقل يجوز ذلك ، لكن أين السمع فيه انتهى .

قال إمام الحرمين : هذه المسألة لا تظهر لها فائدة ، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ; ووافقه المازري ، والماوردي ، وغيرهما ، وهذا صحيح ، فإنه لا يتعلق بذلك فائدة ، باعتبار هذه الأمة ، ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تعبد بها ، وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته .

وأقرب هذه الأقوال ، قول من قال : إنه كان متعبدا بشريعة إبراهيم - عليه السلام - فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كثير البحث عنها ، عاملا بما بلغ إليه منها ، كما يعرف ذلك من كتب السير ، وكما تفيده الآيات القرآنية ، من أمره - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد البعثة باتباع تلك الملة ، فإن ذلك يشعر بمزيد خصوصية لها ، فلو قدرنا أنه كان على شريعة قبل البعثة لم يكن إلا عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية