صفحة جزء
103 - فصل .

المسألة الثانية : إذا ذكروا اسم غير الله على ذبيحتهم " كالزهرة " و " المسيح " وغيرهما ، فهل يلحق بمتروك التسمية فيكون حكمه حكمه ، أو يحرم قطعا وإن أبيح متروك التسمية ؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد أصحهما تحريمه .

قال الميموني : سألت أبا عبد الله عمن يذبح من أهل الكتاب ولم يسم ؟ فقال : إن كان مما يذبحون لكنائسهم يدعون التسمية فيه على عمد ، إنما يذبح للمسيح فقد كرهه ابن عمر ، إلا أن أبا الدرداء يتأول أن طعامهم حل ، وأكثر ما رأيت منه الكراهية لأكل ما ذبح لكنائسهم .

وقال الميموني أيضا : سألت أبا عبد الله عن ذبيحة المرأة من أهل [ ص: 516 ] الكتاب ولم تسم ، قال : إن كانت ناسية فلا بأس ، وإن كان مما يذبحون لكنائسهم قد يدعون التسمية على عمد .

وقال في رواية ابنه عبد الله : ما ذبح " للزهرة " فلا يعجبني أكله ، قيل له : أحرام أكله ؟ قال : لا أقول حرام ، ولكن لا يعجبني .

وقال في رواية حنبل : يجتنب ما ذبح لكنائسهم وأعيادهم .

وقال أبو البركات في " محرره " : وإن ذكروا عليه اسم غير الله ففيه روايتان منصوصتان ، أصحهما عندي تحريمه .

وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه : لا تؤكل ذبائحهم التي [ ص: 517 ] سموا عليها اسم المسيح .

قال القاضي إسماعيل في " أحكام القرآن " : وكأن أهل الكتاب خصوا بإباحة ذبيحتهم ، حتى كأنها قد أهل بها لله مع الكفر الذي هم عليه ، فخرج ما أهل به لغير الله إذ كانوا قد أهلوا بها وأشركوا مع الله تعالى .

ولهذا الوضع - فيما أحسب - اختلف الناس فيما ذبح النصارى لأعيادهم أو ذبحوا باسم المسيح ، فكرهه قوم لأنهم أخلصوا الكفر عند تلك الذبيحة ، فصارت مما أهل به لغير الله ، ورخص في ذلك قوم على الأصل الذي أبيح من ذبائحهم .

فأما من بلغنا عنه الرخصة في ذلك فحدثنا علي بن عبد الله ، ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن عمير بن الأسود السكوني قال : أتيت أهلي فإذا كتف شاة مطبوخة ، قلت من أين هذا ؟ قالوا جيراننا من النصارى ذبحوا كبشا لكنيسة جرجس ، قلدوه عمامة وتلقوا دمه في طست ، ثم طبخوا وأهدوا إلينا وإلى جيراننا ، قال : قلت : ارفعوا هذا ثم هبطت إلى أبي الدرداء فسألته ، وذكرت ذلك له ، فقال : اللهم غفرا ، هم أهل الكتاب طعامهم لنا حل وطعامنا لهم حل .

[ ص: 518 ] [ ص: 519 ] ثنا علي [ ثنا ] زيد بن الحباب ، أخبرني معاوية بن صالح ، حدثني أبو الحكم التجيبي ، حدثني جرير بن عتبة - أو عتبة بن جرير - قال : سألت عبادة بن الصامت عن ذبائح النصارى لموتاهم ، قال : لا باس به .

[ ص: 520 ] ثنا علي ، ثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت الأوزاعي عن مكحول فيما ذبحت النصارى لأعياد كذا ، قال : كله ، قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم .

وثنا علي ، ثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يقول : سمعت القاسم بن مخيمرة قال : كلها ، ولو سمعته يقول : على اسم جرجس لأكلتها .

[ ص: 521 ] حدثنا علي ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال : كلها .

وبه إلى أبي بكر عن حبيب بن عبيد : أن العرباض بن سارية قال : كله .

ثنا سليمان بن حرب ، ثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد الملك عن عطاء في النصراني يذبح ويذكر اسم المسيح ، قال : كله ، قد أحل الله ذبائحهم ، وقد علم ما يقولون .

[ ص: 522 ] وذكر عن عطاء أيضا أنه سئل عن النصراني يذبح ويقول : باسم المسيح ، فقال : كل .

وقال إبراهيم في الذمي يذبح ويقول : باسم المسيح ، فقال : إذا توارى عنك فكل .

وقال عبد الله بن وهب : حدثني حيوة بن شريح عن عقبة بن مسلم التجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا : حل لنا ما يذبح لعيد الكنائس ، وما أهدي من خبز أو لحم ، وإنما هو طعام أهل الكتاب .

قال حيوة : فقلت أرأيت قول الله : وما أهل لغير الله به ، فقال : [ ص: 523 ] إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون .

وقال أيوب بن نجيح : سألت الشعبي عن ذبائح نصارى العرب ، فقلت : منهم من يذكر الله ، ومنهم من يذكر المسيح ، فقال : كل وأطعمني .

قال القاضي إسماعيل : وأما من بلغنا عنه أنه كره ذلك ، فحدثنا محمد بن أبي بكر ، ثنا ابن مهدي عن قيس عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي : قال إذا سمعت النصراني يقول : باسم المسيح فلا تأكل وإذا لم [ ص: 524 ] تسمع فكل ، فقد أحلت لنا ذبائحهم .

حدثنا علي ، ثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه أن امرأة سألت عائشة فقالت : إن لنا أظآرا من العجم لا يزالون يكون لهم عيد ، فيهدون لنا فيه أفنأكل منه ، فقالت : أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه ، ولكن كلوا من أشجارهم .

حدثنا علي ، ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : ما ذبح للكنيسة فلا تأكله .

[ ص: 525 ] وقال حماد : كل ما لم تسمعهم أهلوا به لغير الله .

[ ص: 526 ] وكرهه مجاهد وطاوس ، وكرهه ميمون بن مهران .

وقال القاضي إسماعيل : وكان مالك يكره ذلك من غير أن يوجب فيه تحريما .

قال المبيحون : هذا من طعامهم ، وقد أباح الله لنا طعامهم من غير تخصيص ، وقد علم سبحانه أنهم يسمون غير اسمه .

قال المحرمون : قد صرح القرآن بتحريم ما أهل به لغير الله ، وهذا عام في ذبيحة الوثني والكتابي إذا أهل بها لغير الله ، وإباحة ذبائحهم - وإن كانت مطلقة - لكنها مقيدة بما لم يهلوا به لغيره ، فلا يجوز تعطيل المقيد وإلغاؤه بل يحمل المطلق على المقيد .

قال الآخرون : بل هذا من باب العام والخاص ، فأما ما أهل به لغير الله فعام في الكتابي وغيره ، خص منه ذبيحة الكتابي فبقيت الآية على عمومها في غيره .

[ ص: 527 ] قال الآخرون بل قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، عام فيما أهلوا به لله وما أهلوا به لغيره ، خص منه ما أهل به لغيره ، فبقي اللفظ على عمومه فيما عداه ، قالوا : وهذا أولى لوجوه .

أحدها : أنه قد نص سبحانه على تحريم ما لم يذكر عليه اسمه ، ونهى عن أكله ، وأخبر أنه فسق ، وهذا تنبيه على أن ما ذكر عليه اسم غيره أشد تحريما وأولى بأن يكون فسقا .

الثاني : أن قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، قد خص بالإجماع ، وأما ما أهل به لغير الله فلم يخص بالإجماع ، فكان الأخذ بالعموم الذي لم يجمع على تخصيصه أولى من العموم الذي قد أجمع على تخصيصه .

الثالث : أن الله سبحانه قال : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، فحصر التحريم في هذه الأربعة فإنها محرمة في كل ملة ، لا تباح بحال إلا عند الضرورة ، وبدأ بالأخف تحريما ثم بما هو أشد منه ، فإن تحريم الميتة دون تحريم الدم ، فإنه أخبث منها ، ولحم الخنزير أخبث منها ، وما أهل به لغير الله أخبث الأربعة .

ونظير هذا قوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ، فبدأ بالأسهل تحريما ثم ما [ ص: 528 ] هو أشد منه إلى أن ختم بأغلظ المحرمات ، وهو " القول عليه بلا علم " ، فما أهل به لغير الله في الدرجة الرابعة من المحرمات .

الرابع : أن ما أهل به لغير الله لا يجوز أن تأتي شريعة بإباحته أصلا ، فإنه بمنزلة عبادة غير الله .

وكل ملة لا بد فيها من صلاة ونسك ، ولم يشرع الله على لسان رسول من رسله أن يصلي لغيره ، ولا ينسك لغيره قال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت .

الخامس : أن ما أهل به لغير الله تحريمه من باب تحريم الشرك ، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير من باب تحريم الخبائث والمعاصي .

السادس : أنه إذا خص من طعام الذين أوتوا الكتاب ما يستحلونه من الميتة والدم ولحم الخنزير ; فلأن يخص منه ما يستحلونه مما أهل به لغير الله أولى وأحرى .

السابع : أنه ليس المراد من طعامهم ما يستحلونه وإن كان محرما عليهم ، فهذا لا يمكن القول به ، بل المراد به ما أباحه الله لهم فلا يحرم علينا أكله فإن الخنزير من طعامهم الذي يستحلونه ، ولا يباح لنا ، وتحريم ما أهل به لغير الله عليهم أعظم من تحريم الخنزير ، وسر المسألة أن طعامهم ما أبيح لهم لا ما يستحلونه مما حرم عليهم .

الثامن : أن باب الذبائح على التحريم ، إلا ما أباحه الله ورسوله ، فلو [ ص: 529 ] قدر تعارض دليلي الحظر والإباحة لكان العمل بدليل الحظر أولى ، لثلاثة أوجه .

أحدها : تأيده بالأصل الحاظر .

الثاني : أنه أحوط .

الثالث : أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا ، ورجع إلى أصل التحريم .

التالي السابق


الخدمات العلمية