صفحة جزء
قوله : ( ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ما كلفهم . وهو تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله ، نقول : لا حيلة لأحد ، [ ولا تحول لأحد ] ، ولا حركة لأحد عن معصية الله ، إلا بمعونة الله ، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله ، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره . غلبت مشيئته المشيئات كلها ، وغلب قضاؤه الحيل كلها . يفعل ما يشاء ، [ ص: 653 ] وهو غير ظالم أبدا . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ الأنبياء : 23 ] .

ش : فقوله : لم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون - قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] . لا نكلف نفسا إلا وسعها [ الأنعام : 152 ] و [ الأعراف : 42 ] و [ المؤمنون : 62 ] .

وعن أبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ، ثم تردد أصحابه أنه : هل ورد به الشرع أم لا ؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان ، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن ، وأنه سيصلى نارا ذات لهب ، فكان مأمورا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن . وهذا تكليف بالجمع بين الضدين ، وهو محال .

والجواب عن هذا بالمنع : فلا نسلم أنه مأمور بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة ، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان ، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة . ولا يلزم قوله تعالى للملائكة : أنبئوني بأسماء هؤلاء [ البقرة : 31 ] . مع عدم علمهم بذلك ، ولا للمصورين يوم القيامة : أحيوا ما خلقتم ، وأمثال ذلك - لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، بل هو خطاب تعجيز .

[ ص: 654 ] وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به [ البقرة : 286 ] لأن تحميل ما لا يطاق ليس تكليفا ، بل يجوز أن يحمله جبلا لا يطيقه فيموت . وقال ابن الأنباري : أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه ، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه . ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب ، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها .

ومنهم من يقول : يجوز تكليف الممتنع عادة ، دون الممتنع لذاته ، لأن ذلك لا يتصور وجوده ، فلا يعقل الأمر به ، بخلاف هذا .

ومنهم من يقول : ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه ، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده ، فإنه يجوز تكليفه . وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى ، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركا له مشتغلا بضده - بدعة في الشرع واللغة . فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه ! .

وهم التزموا هذا ، لقولهم : إن الطاقة - التي هي الاستطاعة وهي القدرة - لا تكون إلا مع الفعل ! فقالوا : كل من لم يفعل فعلا ، فإنه [ ص: 655 ] لا يطيقه ! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف ، وخلاف ما عليه عامة العقلاء ، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة .

وأما ما لا يكون إلا مقارنا للفعل ، فذلك ليس شرطا في التكليف ، مع أنه في الحقيقة إنما هناك إرادة الفعل . وقد يحتجون بقوله تعالى : " ما كانوا يستطيعون السمع [ هود : 20 ] . إنك لن تستطيع معي صبرا [ الكهف : 75 ] . وليس في ذلك إرادة ما سموه استطاعة ، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل ، فإن الله ذم هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع ، ولو أراد بذلك المقارن لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع ! فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى ، ولكن هؤلاء لبغضهم الحق وثقله عليهم ، إما حسدا لصاحبه ، وإما اتباعا للهوى - لا يستطيعون السمع . وموسى عليه السلام لا يستطيع الصبر ، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع ، وليس عنده منه علم . وهذه لغة العرب وسائر الأمم ، فمن يبغض غيره يقال : إنه لا يستطيع الإحسان إليه ، ومن يحبه يقال : إنه لا يستطيع عقوبته ، لشدة محبته له ، لا لعجزه عن عقوبته ، فيقال ذلك للمبالغة ، كما تقول : لأضربنه حتى يموت ، والمراد الضرب الشديد . وليس هذا عذرا ، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السماوات والأرض ، قال تعالى : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] .

وقوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم به ، إلى آخر كلامه - أي : ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه . وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق ، لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله - دليل على إثبات القدر . وقد فسرها الشيخ بعدها .

[ ص: 656 ] ولكن في كلام الشيخ إشكال : فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار ، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي ، وهو قد قال : لا يكلفهم إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ما كلفهم . وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد ، ولا يصح ذلك ، لأنهم يطيقون فوق ما كلفهم به ، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف ، كما قال تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] . وقال تعالى : يريد الله أن يخفف عنكم [ النساء : 28 ] . وقال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] . فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه ، ولكنه تفضل علينا ورحمنا ، وخفف عنا ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج . ففي العبارة قلق ، فتأمله .

التالي السابق


الخدمات العلمية