صفحة جزء
[ ص: 156 ] 59 - تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . القول بالحلول والاتحاد الذي هو أخو الحلول أول من قال به النصارى ، إلا أنهم خصوه بعيسى عليه السلام أو به وبمريم أمه ولم يعدوه إلى أحد ، وخصوه باتحاد الكلمة دون الذات بحيث إن علماء المسلمين سلكوا في الرد عليهم طريق إلزامهم بأن يقولوا بمثل ذلك في موسى عليه السلام وفي الذات أيضا ، وهم لا يقولون بالأمرين ، وإذا سلموا بطلان ذلك لزم إبطال ما قالوه ، أما المتوسمون بسمة الإسلام فلم يبتدع أحد منهم هذه البدعة وحاشاهم من ذلك ; لأنهم أذكى فطرة وأصح لبا من أن يمشي عليهم هذا المحال ، وإنما مشى ذلك على النصارى لأنهم أبلد الخلق أذهانا وأعماهم قلوبا ، غير أن طائفة من غلاة المتصوفة نقل عنهم أنهم قالوا بمثل هذه المقالة وزادوا على النصارى في تعدية ذلك ، والنصارى قصروه على واحد ، فإن صح ذلك عنهم فقد زادوا في الكفر على النصارى ، وأحسن ما اعتذر عمن صدرت منه هذه الكلمة الدالة على ذلك وهي قوله : أنا الحق ، بأنه قال ذلك في حال سكر واستغراق غيبوبة عقل ، وقد رفع الله التكليف عمن غاب عقله وألغى أقواله فلا تعد مقالته هذه شيئا ولا يلتفت إليها فضلا عن أن تعد مذهبا ينقل ، وما زالت العلماء ومحققو الصوفية يبينون بطلان القول بالحلول والاتحاد وينبهون على فساده ويحذرون من ضلاله ، وهذه نبذة من كلام الأئمة في ذلك : قال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء في باب السماع : الحالة الرابعة : سماع من جاوز الأحوال والمقامات ، فعزب عن فهمه ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص في عين الشهود الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف حتى بهتن وسقط إحساسهن ، وعن مثل هذه الحالة يعبر الصوفية بأنه فنى عن نفسه ، ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى ، فكأنه فنى عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود ، وفنى أيضا عن الشهود ، فإن القلب إن التفت إلى الشهود وإلى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود ، فالمستهتر بالمرئي لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته ولا إلى عينه التي بها رؤيته ، ولا إلى قلبه الذي به لذته ; فالسكران لا خبرة له من سكره ، والمتلذذ لا خبرة له من التذاذه ، إنما خبرته من الملتذ به فقط ، ومثاله العلم بالشيء ، فإنه مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء ، فالعالم بالشيء مهما ورد [ ص: 157 ] عليه العلم بالعلم بالشيء كان معرضا عن الشيء ، ومثل هذه الحالة قد تطرأ في حق المخلوقين ، وتطرأ أيضا في حق خالقية الخالق ، ولكنها في الغالب تكون كالبرق الخاطف الذي لا يثبت ولا يدوم ، فإن دام لم تطقه القوى البشرية ، فربما يضطرب تحت أعبائه اضطرابا تهلك فيه نفسه ، فهذه درجة الصديقين في الفهم والوجد وهي أعلى الدرجات ; لأن السماع على الأحوال ، وهي ممتزجة بصفات البشرية وهو نوع قصور ، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله ، أعني أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها ، كما لم يكن للنسوة التفات إلى الأيدي والسكاكين ، فيسمع بالله ولله وفي الله ومن الله . وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق ، وعبر ساحل الأحوال والأعمال ، واتحد لصفاء التوحيد وتحقق بمحض الإخلاص ، فلم يبق فيه منه شيء أصلا ، بل خمدت بالكلية بشريته ، وفنى التفاته إلى صفات البشرية رأسا ، إلى أن قال : ومن هنا نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد ، وقال : أنا الحق ، وحوله يدندن كلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت ، أو تدرعها بها أو حلولها فيها على ما اختلفت فيه عباراتهم ، وهو غلط محض . هذا كله لفظ الغزالي ، وقال أيضا في باب المحبة : من قويت بصيرته ولم تضعف منته ; فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله ولا يعرف غيره ، ويعلم أنه ليس في الوجود إلا الله ، وأفعاله أثر من آثار قدرته فهي تابعة له ، فلا وجود لها بالحقيقة دونه ، وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها ، ومن هذا حاله : فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ، ويذهل عن الفعل من حيث إنه : سماء ، وأرض ، وحيوان ، وشجر ، بل ينظر فيه من حيث إنه أثره لا من حيث إنه صنعه ، فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره ، كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه ، ورأى فيه الشاعر والمصنف ، ورأى آثاره من حيث إنه أثره ، لا من حيث إنه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض ، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف ، وكذا العالم صنع الله تعالى ، فمن نظر إليه من حيث إنه فعل الله ، وعرفه من حيث إنه فعل الله ، وأحبه من حيث إنه فعل الله ، لم يكن ناظرا إلا في الله ، ولا عارفا إلا بالله ، ولا محبا إلا لله ، وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث إنه عبد الله ، فهذا هو الذي يقال فيه : إنه فنى في التوحيد وإنه فنى عن نفسه ، وإليه الإشارة بقول من قال : كنا بنا ففنينا [ عنا فبقينا ] بلا نحن ، فهذه أمور معلومة عند ذوي الأبصار ، أشكلت لضعف الأفهام عن دركها ، وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الإفهام ، [ ص: 158 ] أو لاشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم ، ثم قال : وقد تحزب الناس إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر ، وإلى غالين مسرفين تجاوزوا إلى الاتحاد وقالوا بالحلول ، حتى قال بعضهم : أنا الحق ، وضل النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا : هو الإله ، وقال آخرون : تدرع الناسوت باللاهوت ، وقال آخرون : اتحد به ، وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل واستحالة الاتحاد والحلول ، واتضح لهم وجه الصواب فهم الأقلون ، انتهىكلام الغزالي ، وبدأنا بالنقل عنه ; لأنه فقيه أصولي متكلم صوفي ، وهو أجل من اعتمد عليه في هذا المقام ; لاجتماع هذه الفنون فيه .

وقال إمام الحرمين في الإرشاد : أصل مذهب النصارى أن الاتحاد لم يقع إلا بالمسيح عليه السلام دون غيره من الأنبياء ، واختلفت مذاهبهم فيه ، فزعم بعضهم أن المعنى به حلول الكلمة جسد المسيح لا يحل العرض محله ، وذهبت الروم إلى أن الكلمة مازجت جسد المسيح وخالطته مخالطة الخمر اللبن ، وهذا كله خبط .

وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك في كتابه المسمى بالنظامي في أصول الدين : قالت النصارى : إن عيسى عليه السلام لاهوتي ناسوتي ، وتكلموا في حلول الكلمة لمريم عليها السلام ، فمنهم من قال : إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة كما يحل الماء في اللبن حلول الممازجة والمخالطة ، ومنهم من قال : إنها حلت فيها من غير ممازجة كما أن شخص الإنسان يتبين في المرآة الصقيلة من غير ممازجة بينهما ، ومنهم من قال : إن مثل اللاهوت مع الناسوت مثل الخاتم مع الشمع في أنه يؤثر فيه حتى يتبين فيه النقش ثم لا يبقى فيه شيء من الأثر ، والأول طريقة اليعقوبية ، والثاني طريقة الملكية ، والثالث طريق النسطورية ، ثم قال : واعلم أنهم قالوا بالاتحاد ، فقالت طائفة منهم في معنى الاتحاد : الكلمة التي هي كن حلت جسد المسيح ، وقالت اليعقوبية : إن الاتحاد اختلاط وامتزاج ، وزعمت أن كلمة الله انقلبت لحما ودما بالاتحاد ، وقالت طائفة منهم : إن الاتحاد هو : أنه أودعها بإظهار روح القدس عليه ، وقد حكينا عمن قاله : يجري هذا الاتحاد مجرى وقوع الهيئة في المرآة والنقش من الخاتم في الشمع وما جرى مجراه ، ويقال لهذه الطائفة منهم : إن ظهور هذه الصورة في المرآة والشيء الصقيل ليس اختلاط [ ص: 159 ] شيء بشيء ولا انتقال شيء إلى شيء ، بل أجرى الله العادة بأن الواحد إذا قابل الشيء الصقيل خلق الله له رؤية يرى بها نفسه ، وإما أن يكون في الصقيل على شيء ، فلا ، أما ترى أنه إن لمس وجهه فوجه نفسه لمس لا وجه ظهر فيه ; فعلم أنه ليس في المرآة شيء ، وهذا القول يوجب عليهم الإقرار بأنه ليس من القديم سبحانه وتعالى في مريم ولا في عيسى شيء ، ويبطل عليهم القول بأنه لاهوتي وناسوتي ، وكذلك القول في الخاتم ونقشه مع الشمع فليس يحصل من الفص في الشمع شيء ، وإنما يتركب الشمع تركيبا من بعضه في بعض ، ثم إن هذا الذي ذكروه كله إنما يجوز بين المتماسين المتجاورين المتلاصقين الجسمين المحدودين الذين يجوز فيهما حلول الحوادث وتغير الأوصاف ، والله تعالى يتنزه عن ذلك كله ، وأما قولهم : إن الكلمة انقلبت لحما ودما ، فلا يجوز ; لأنه لو جاز ذلك لجاز أن ينقلب القديم محدثا ، ولو جاز ذلك لجاز انقلاب المحدث قديما فيبطل الفصل بينهما ، وهذا محال فبطل ما قالوه ، انتهى .

وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب المحصل في أصول الدين : مسألة الباري تعالى لا يتحد بغيره ; لأنه حال الاتحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحد ، وإن صارا معدومين فلم يتحدا بل حدث ثالث ، وإن عدم أحدهما وبقي الآخر فلم يتحد ; لأن المعدوم لا يتحد بالموجود .

وقال الإمام أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي صاحب الحاوي الكبير في مناظرة ناظرها لبعض النصارى في ذلك [ القائل ] بالحلول أو الاتحاد : ليس من المسلمين بالشريعة بل في الظاهر والتسمية ، ولا ينفع التنزيه مع القول بالاتحاد والحلول ، فإن دعوى التنزيه مع ذلك إلحاد ، وكيف يصح توحيد مع اعتقاد أنه سبحانه حل في البشر المأخوذ من مريم ، وهنالك حلوله إما حلول عرض في جوهر ; فيقولون بأنه عرض ، أو حلول تداخل الأجسام ، فهو جسم ، وهنالك إن حل كله فقد انحصر في القالب البشري وصار ذا نهاية وبداية أو بعضه فقد انقسم وتبعض ، وكل هذه الأمور أباطيل وتضاليل .

وقال القاضي عياض في الشفا ما معناه : أجمع المسلمون على كفر أصحاب الحلول ومن ادعى حلول الباري سبحانه في أحد الأشخاص كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى والقرامطة . وقال في موضوع آخر : ما عرف الله من شبهه وجسمه من اليهود أو أجاز عليه الحلول والانتقال والامتزاج من النصارى ، ونقله عنه النووي في [ ص: 160 ] شرح مسلم ، وقال القاضي ناصر الدين البيضاوي في تفسيره في قوله تعالى : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) هذا قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد ، وقال في قوله تعالى : ( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ) أي : ألا يتوبون بالانتهاء عن تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقرير والتهديد .

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في قواعده الكبرى : ومن زعم أن الإله يحل في شيء من أجساد الناس أو غيرهم فهو كافر ; لأن الشرع إنما عفا عن المجسمة لغلبة التجسيم على الناس فإنهم لا يفهمون موجودا في غير جهة ، بخلاف الحلول فإنه لا يعم الابتلاء به ولا يخطر على قلب عاقل فلا يعفى عنه انتهى .

قلت : مقصود الشيخ أنه لا يجري في تكفيرهم الخلاف الذي جرى في المجسمة بل يقطع بتكفير القائلين بالحلول إجماعا ، وإن جرى في المجسمة خلاف ، وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في أول الحلية : أما بعد فقد استعنت بالله وأجبتك إلى ما ابتغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة من أعلام المحققين من المتصوفة وأئمتهم وترتيب طبقاتهم من النساك ومحجتهم من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم ممن عرف الأدلة والحقائق ، وباشر الأحوال والطرائق ، وساكن الرياض والحدائق ، وفارق العوارض والعلائق ، وتبرأ من المتنطعين والمتعمقين ، ومن أهل الدعاوى من المتسوفين ، ومن الكسالى والمتثبطين المشبهين بهم في اللباس والمقال والمخالفين لهم في العقيدة والفعال ، وذلك لما بلغك من بسط لساننا وألسنة أهل الفقه والآثار في كل القطر والأمصار في المنتسبين إليهم من الفسقة الفجار ، والمباحية والحلولية الكفار ، وليس ما حل بالكذبة من الوقيعة والإنكار بقادح في منقبة البررة الأخيار ، وواضع من درجة الصفوة الأبرار .

التالي السابق


الخدمات العلمية