صفحة جزء
الباب الخامس

في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية

اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة عقلية ، وهي أن التكوين هل هو نفس المكون أم لا ؟ قالت المعتزلة والأشعرية : التكوين نفس المكون ، وقال آخرون إنه غيره ، واحتج النفاة بوجوه : -

الحجة الأولى : أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة أو على سبيل الوجوب ، فإن كان الأول فتلك الصفة هي القدرة لا غير ، وإن كان الثاني لزم كونه تعالى موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار .

الحجة الثانية : أن تلك الصفة المسماة بالتكوين إن كانت قديمة لزم من قدمها الآثار وإن كانت محدثة افتقر تكوينها إلى تكوين آخر ولزم التسلسل .

الحجة الثالثة : أن الصفة المسماة بالقدرة إما أن يكون لها صلاحية التأثير عند حصول سائر الشرائط من العلم والإرادة أو ليس لها هذه الصلاحية ، فإن كان الأول فحينئذ تكون القدرة كافية في خروج الأثر من العدم إلى الوجود ، وإلى هذا التقدير فلا حاجة إلى إثبات صفة أخرى ، وإن كان الثاني فحينئذ القدرة لا تكون لها صلاحية التأثير ، فوجب أن لا تكون القدرة قدرة ، وذلك يوجب التناقض .

واحتج مثبتو قدم الصفة بأن القادر على الفعل قد يوجده وقد لا يوجده ، ألا ترى أن الله تعالى قادر على خلق ألف شمس وقمر على هذه السماء إلا أنه ما أوجده ، وصحة هذا النفي والإثبات يدل على أن المعقول من كونه موجدا مغاير للمعقول من كونه قادرا ، ثم نقول : كونه موجدا إما أن يكون معناه دخول الأثر في الوجود أو يكون أمرا زائدا ، والأول باطل لأنا نعلل دخول هذا الأثر في الوجود بكون الفاعل موجدا له ، ألا ترى أنه إذا قيل : لم وجد العالم ؟ قلنا : لأجل أن الله أوجده ، فلو كان كون الموجد موجدا له معناه نفس هذا الأثر لكان تعليل وجود الأثر بالموجدية يقتضي تعليل وجوده نفسه ، ولو كان معللا بنفسه لامتنع إسناده إلى الغير ، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر يقتضي نفي الموجدية ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر كلام باطل ، فوجب أن يكون كون الموجد موجدا أمرا مغايرا لكون الفاعل قادرا لوجود الأثر ، فثبت أن التكوين غير المكون .

إذا عرفت هذا الأصل فنقول : القائلون بأن التكوين نفس المكون قالوا : معنى كونه تعالى خالقا رازقا محييا مميتا ضارا نافعا عبارة عن نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة ، وهي تأثير قدرة الله تعالى في حصول هذه الأشياء ، وأما القائلون بأن التكوين غير المكون ، فقالوا معنى كونه خالقا رازقا ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط ، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية .

[ ص: 116 ] اعلم أن الصفات الإضافية على أقسام .

( أحدها ) كونه معلوما مذكورا مسبحا ممجدا ، فيقال : يا أيها المسبح بكل لسان ، يا أيها الممدوح عند كل إنسان ، يا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان ، ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناه كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية .

وثانيها : كونه تعالى فاعلا للأفعال صفة إضافية محضة بناء على أن تكوين الأشياء ليس بصفة زائدة ، إذا عرفت هذا فالمخبر عنه إما أن يكون مجرد كونه موجدا ، أو المخبر عنه كونه موجدا للنوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية ، أما القسم الأول - وهو اللفظ الدال على مجرد كونه موجدا - فههنا ألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة مثل : الموجد ، والمحدث ، والمكون ، والمنشئ ، والمبدع ، والمخترع ، والصانع ، والخالق ، والفاطر ، والبارئ ، فهذه ألفاظ عشرة متقاربة ، ومع ذلك فالفرق حاصل : أما الاسم الأول - وهو الموجد - فمعناه المؤثر في الوجود ، وأما المحدث فمعناه الذي جعله موجودا بعد أن كان معدوما ، وهذا أخص من مطلق الإيجاد ، وأما المكون فيقرب من أن يكون مرادفا للموجد ، وأما المنشئ فاشتقاقه من النشوء والنماء ، وهو الذي يكون قليلا قليلا على التدريج ، وأما المبدع فهو الذي يكون دفعة واحدة ، وهما كنوعين تحت جنس الموجد . والمخترع قريب من المبدع وأما الصانع فيقرب أن يكون اسما لمن يأتي بالفعل على سبيل التكلف ، وأما الخالق فهو عبارة عن التقدير ، وهو في حق الله تعالى يرجع إلى العلم ، وأما الفاطر فاشتقاقه من الفطر وهو الشق ، ويشبه أن يكون معناه هو الإحداث دفعة ، وأما البارئ فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة ، يقال : برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقا لغرض معين ، فهذا بيان هذه الألفاظ الدالة على كونه موجدا على سبيل العموم ، أما الألفاظ الدالة على إيجاد شيء بعينه فتكاد أن تكون غير متناهية ، ويجب أن نذكر في هذا الباب أمثلة .

فالمثال الأول : أنه إذا خلق النافع سمي نافعا ، وإذا خلق المؤلم سمي ضارا .

والمثال الثاني : إذا خلق الحياة سمي محييا ، وإذا خلق الموت سمي مميتا .

والمثال الثالث : إذا خصهم بالإكرام سمي برا لطيفا ، وإذا خصهم بالقهر سمي قهارا جبارا .

والمثال الرابع : إذا قلل العطاء سمي قابضا ، وإذا أكثره سمي باسطا .

والمثال الخامس : إن جارى ذوي الذنوب بالعقاب سمي منتقما وإن ترك ذلك الجزاء سمي عفوا غفورا رحيما رحمانا .

المثال السادس : إن حصل المنع والإعطاء في الأموال سمي قابضا باسطا ، وإن حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضا رافعا .

إذا عرفت هذا فنقول : إن أقسام مقدورات الله تعالى بحسب الأنواع والأجناس غير متناهية ، فلا جرم يمكن أن يحصل لله تعالى أسماء غير متناهية بحسب هذا الاعتبار .

وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا دقائق لا بد منها :

فالدقيقة الأولى : أن مقابل الشيء تارة يكون ضده وتارة يكون عدمه فقولنا : " المعز المذل " وقولنا : المحيي المميت يتقابلان تقابل الضدين ، وأما قولنا : " القابض الباسط ، الخافض الرافع " فيقرب من أن يكون تقابلهما تقابل العدم والوجود ؛ لأن القبض عبارة عن أن لا يعطيه المال الكثير ، والخفض عبارة أن لا يعطيه الجاه الكبير ، أما الإعزاز والإذلال فهما متضادان ؛ لأنه فرق بين أن لا يعزه وبين أن يذله .

والدقيقة الثانية : أنه قد تكون الألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة ، ولكن التأمل التام يدل على الفرق اللطيف ، وله أمثلة :

المثال الأول : الرؤوف الرحيم يقرب من هذا الباب ، إلا أن الرؤوف أميل إلى جانب إيصال النفع ، والرحيم أميل إلى جانب دفع الضرر .

والمثال الثاني : الفاتح [ ص: 117 ] والفتاح ، والنافع والنفاع ، والواهب والوهاب ، فالفاتح يشعر بإحداث سبب الخير ، والواهب يشعر بإيصال ذلك الخير إليه ، والنافع يشعر بإيصال ذلك النفع إليه بقصد أن ينتفع ذلك الشخص به ، وإذا وقفت على هذا القانون المعتبر في هذا الباب أمكنك الوقوف على حقائق هذا النوع من الأسماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية